Archive for 28 أفريل, 2012

سوريا الجرحى والمشردين

أفريل 28, 2012

سوريا الحرة في بيروت

أفريل 27, 2012

محمد أبي سمرا
جريدة النهار 27-04-2012

في مناسبة وداع مديرة مكتب مؤسسة ثقافية اوروبية غير حكومية ناشطة في دعم مشاريع ثقافية في بيروت، التقى في سهرة بمربع ليلي في شارع الحمراء، اكثر من مئة شخص من أصدقاء المؤسسة والمتعاونين معها. كان الساهرون المدعوون من العاملين في مجالات ومهن ثقافية وفنية متنوعة. معظمهم من الأجيال الشابة، وبعضهم في أواسط أعمارهم. أقل من نصفهم تقريباً من اللبنانيين واللبنانيات، ونصفهم الآخر من السوريين والسوريات، الى قلة من بلدان اوروبية، تعمل وتقيم في بيروت.
تميز اللقاء المختلط بالحضور السوري الكثيف شباناً وشابات من الوافدين حديثاً الى العاصمة اللبنانية، طلباً لإقامة موقتة قد تطول، لكنها توفر فسحة من الأمن والأمان والحرية، بعيداً من القلق والخوف والحصار الأمني والمطاردة والاعتقال والقتل في سوريا الثائرة. فالسوريون والسوريات هؤلاء، الى أنهم من أبناء فئات اجتماعية متوسطة، ومن متخرجي الجامعات وأصحاب تجارب وخبرات ومهن ثقافية وفنية، هم أيضاً من ناشطي الحراك السلمي والتظاهر، ومن مؤيدي الثورة وداعميها. القاسم المشترك بينهم، أنهم أصحاب ثقافة وتوجهات سياسية مدنية وعلمانية، برغم ميولهم الى هيئات متباينة في الحراك والثورة السوريين. منهم من مضت سنوات على إقامته وعمله في بيروت، كالمهندسة المدنية الدمشقية الشابة التي قالت إنها سبقت الآخرين والثورة في تحررها من “الكابوس الأسدي” و”تلبننها” في بيروت. منهم ومنهن من وفد للدراسة في الجامعة الأميركية قبل سنتين أو منذ بدايات الثورة. أما الغالبية فتوافدت تباعاً في الشهور الأخيرة. لكنهم جميعاً يتفقون على أن الثورة في بلدهم هي التي جمعت شملهم في بيروت، وشكلت محور تعارفهم وتواصلهم ولقاءاتهم وروابطهم وأحاديثهم ونشاطاتهم وعلاقاتهم في ما بينهم، وباللبنانيين: نحن نعيش اليوم حياة جديدة وزمناً جديداً، فالثورة غيّرتنا وغيّرت نظرتنا الى أنفسنا والى العالم من حولنا، وهي بلدنا الجديد، قال أحدهم.
حضور هذه الفئة من السوريين والسوريات في نسيج الحياة المدينية البيروتية، جديد واستثنائي وباعث على البهجة، برغم الفجر المأسوي الذي أطلقت الثورة ضوءه في ليل الصمت السوري الطويل. في الربع الثالث من القرن العشرين (1950 – 1975) تعوّدت بيروت على استضافة مثقفين وسياسيين سوريين هاربين من مطاردات الانقلابات العسكرية وسجونها وإعداماتها واغتيالاتها. وفي الربع الأخير من القرن نفسه ونصف العقد الاول من الألفية الثالثة، عملت “سوريا الأسد” على إغراق لبنان في حروبه الأهلية، ثم احتلته وألحقته بنظامها الأمني وكتمت حريته وطاردت سياسيه، فاغتالت كثيرين منهم وولّت عليه أتباعها وصنائعها. فلم يعرف اللبنانيون من السوريين سوى ضباط المخابرات وعناصرها، وجيشاً لجباً من العمال البائسين المكتومين بحثاً عن لقمة عيش تعزّ عليهم في بلدهم المنهوب. أما اليوم، ومنذ أكثر من سنة، فإن اللبنانيين يتعرفون إلى أمثالهم وأقرانهم من السوريين الأحرار الذين غنّى بعضهم في السهرة البيروتية واحدة من أجمل أغاني الثورة:
هاي هاي يا سجّاني/ هاي هاي يا عتم الزنزاني
بعثك رايح/ ظلمك رايح/ شمسي بكرا بتستنّاني”.

شهادات شبابية من الميادين في “بدايات” – هل تجدّد الثورات الأساليب الفنية الكتابية؟

أفريل 23, 2012

محمد أبي سمرا

جريدة النهار في 23-04-2012

بعد ما يزيد على سنة على بداية الثورات العربية، تتصدر مسألتان أساسيتان مجال التفكير في ميادين مختلفة، سياسية، اقتصادية، وثقافية: أوضاع الأجيال الشابة ودورها ومآلها في مسار الثورات، وهيمنة تيارات الإسلام السياسي على المجتمعات والمؤسسات السياسية في دول ما بعد الثورات.
العدد الأول من مجلة “بدايات” – “فصلية ثقافية فكرية”، صدر في بيروت لشتاء العام 2012 وربيعه – حمل عنواناً رئيسياً أو محورياً، هو “الثورات بشبابها”، وضم عدداً من الشهادات الكتابية الجزئية عن الثورات، ودراسة عن “خطاب العولمة وتربية الشباب في العالم العربي”.
في مقابل مأثرة التغطيات التلفزيونية الآنية، والأخرى الصحافية الإخبارية للثورات وتناقل وقائعها ومجرياتها ومناقشتها عبر المدونات الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، أخبار وأشرطة مصورة بعدسات الهواتف المحمولة، تمنح الشهادات الكتابية الشخصية الحوادث والوقائع المروية، قوة وعمقاً مستمرين يتجاوزان اللحظات الآنية التي يطويها الزمن سريعاً، ويحفزان مخيلة القارئ ومداركه وتفكيره على نحوٍ بطيء. هذا يكسبُ ما يُروى ويُوصف كتابياً، أثراً وأبعاداً وحساسية لا توفرها الوسائل الأخرى. فالكتابة، تستطيع تكثيف زمنها وتسريعه، أو تقطيعه وتبطيئه، واستدخاله في سياقات مركبة ومتقاطعة، واستدعاء أبعاده المتصلة به، وتترك مجالاً فسيحاً للتداعيات واعمال تيارات غير مدركة من الوعي والحس والذاكرة. هذا ما تظهره شهادة الكاتب والشاعر المصري القاهري، محمد خير، في عنوان “هواء بلا ديكتاتور”، حين يكتب في مستهل شهادته: “أرتدي ملابسي وأنا أنظر الى العلم القماشي على الحائط وقد بدأت تكسوه طبقة خفيفة من الغبار. على المكتب كمامة الغاز السوداء بالفوهة الاسطوانية تشبه وجه حيوان مفترس. أفكر أنه بعد عام من الثورة أصبح الذهاب الى ميدان التحرير مخيفاً أكثر بكثير”. في سيارة التاكسي، إذ طالعته الشوارع المقفلة، رأى أن “الحواجز الحجرية الجديدة في قلب القاهرة أغرب بكثير من ذهاب مبارك”، فتذكر صورة لـ”بيروت والحواجز الأمنية المتعددة والمتقاطعة”. أما “قبل أيام (فقد) تسللتُ على أقدامي من خلف مبنى (وزارة) الداخلية عبر شارعي الفلكي ومنصور (…) لا شيء سوى عساكر ومدرعات (…) تذكرت قصة قديمة كتبتُها عن مدينة يرتدي أهلها جميعاً في الليل الملابس العسكرية”. ثم صورة أخرى تعود الى مكان وأيام لاحقة: “أحدهم ألصق فوق الجدار الذي سدّ مدخل (شارع) القصر العيني، لافتة بيضاء كبيرة عليها كلمات (للشاعر الراحل) أمل دنقل: آه ما أقسى الجدار”. لذا فكر الشاهد – الكاتب “أن المجاز لم يلتصق بالواقع الى هذا الحد من قبل. كأن الكلمات كُتبت للجدار أو كأن الجدار ارتفع كي تُلصق الكلمات عليه”. لكن الانتقال في الزمن من المشاهد الآنية الحسية اللاهثة، الى قصيدة أمل دنقل المكتوبة قبل سنين كثيرة، يسترسل في العودة الى الزمن الفرعوني: “الحجارة المكعبة الضخمة الرمادية (على مدخل القصر العيني، الآن) كأنها جاءت من الأساطير رأساً، مكتفية بذاتها على طريقة الاهرامات (… التي) بينها فراغات تسمح باختلاس النظر”. من الزمن الفرعوني انتقال مفاجئ الى “صورة طفلة صغيرة على الانترنت، على ظهرها حقيبة المدرسة، تنحني وتنظر عبر الفتحة الصغيرة بين أحجار شارع محمد محمود”. هذه الصور المجتمعة من أزمنة متباعدة في شهادة محمد خير القاهرية، تذكر بما كتبه الشاعر اللبناني حسن عبدالله في عشايا حروب لبنان، في مطلع قصيدته “صيدا”: “حضروا في الأرض/ وجدوا امرأة تزني/ رجلاً ينفض عن خنجره الدم/ حفروا في الرض وجدوا فخاراً صلصالاً… لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحر/ خطأ وجدوا سيارة/ قصفت طائرة مركبة الفرعون/ حفروا في الأرض/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرض”.
هذه الشهادة الكتابية تتجاوز مسألة “الثورات وشبابها” في إطارها السياسي – الاجتماعي، الى الحقل الثقافي – الفني، وأساليب الكتابة التي حفّزتها الثورات نفسها. هذا يعني أن الثورة ليست فعلاً سياسياً واجتماعياً فحسب، بل هي وعي وتحسّسٌ جديدان للعالم والوقائع، وعلى صعيد المخيلة الفنية الكتابية ايضاً، وصولاً الى المفاجئ وغير المتوقع، كما هي الثورة نفسها، على ما يكتب محمد خير في شهادته: “غير الممكن هو ما دفعنا للنزول (الى الشوارع)، ضد حسابات الورقة والقلم (…) شيء سحري لا نعرفه أو ربما تعويذة ما لا تتخلّق إلا عندما ننزل جميعاً ونصفع الأبواب وراءنا: إنزلواااا! النداء الأشهر عبر التويتر، كلما واجهت الثورة اعتداءً أو تحرشاً أو حتى شائعة”. الثورة، إذاً، وليدة عوامل كيميائية شديدة التركيب والغموض، كتلك التي تتداخل على نحو غامض في الكتابة الفنية في هذه الشهادة الجزئية الشخصية عن يوميات الثورة المصرية.
الشهادات الأخرى مختلفة الأساليب الكتابية ايضاً، من صنعاء “ساحة التغيير” كتب جمال جبران قصة “شاب من قبيلة يمنية جاء للأخذ بثأر إبن عم له سقط في الساحة نفسها، فنسي ثأره بعد أيام، إذ لم يجد من يثأر منه، فسكن في ساحة الثورة التي تحولت مدينة جديدة داخل مدينة صنعاء. وينقل جبران عن الشاب، طالب الثأر، قوله: “كنت أرى شباب القبائل أمثالي، شباب قبائل بينهم ثارات قديمة، وهم يتقدمون معاً بصدور عارية صوب زوايا (الساحة) التي ينهمر منها الرصاص، هاتفين: سلمية سلمية”. هذا الهتاف نفسه هو عنوان شهادة الصحافي والناشط السوري محمد دحنون الذي كتب سيرة جزئية لنجم الثورة السورية في داريا، غياث مطر، صاحب فكرة توزيع الورود وعبوات المياه على رجال الأمن والجيش، والذي “سيعتقل في 26 أيلول مع صديقه يحيى الشوربجي، ويعود بعد 3 ايام جثة هامدة الى اهله. جثة تنقصها حنجرة”، مثل مغني الثورة في حماة ابرهيم القاشوش. اما الروائية والناشطة اليمنية بشرى المقطري، فكتبت شهادة ملحمية عن “مسيرة الحياة” الملحمية المروعة، التي سار فيها ألوف المتظاهرين مسافة 256 كلم من مدينة تعز إلى صنعاء. “تعز التي خرجت من صيرورة العماء لتشق طريقها في ليل الحديد والنار (…) فتضمخت سماؤها بالدماء (…) وأُحرقت ساحتها وجرفت جثث ابنائها وسحلت في ميادين الحرية”. هذا ولـ”دوار اللؤلؤة” في البحرين حصته من الشهادات، بقلم المدون والباحث والصحافي علي أحمد الديري.

“إستشراق” شبابي

دراسة ميسون سكرية عن “خطاب العولمة والشباب في العالم العربي”، غزيرة المعطيات والمصادر، في تناولها نظرة المؤسسات والمنظمات الدولية والدراسات في الولايات المتحدة الاميركية، إلى مسألة الشباب في البلدان العربية. تلقي باللائمة على هذه النظرة ومنهجها وبرامجها، لأنها ترى انها تنطلق من “أجندات” غايتها “إعداد الشباب للعمل في منظومة الاقتصاد العالمي” بغية “خلق الشخصية النيوليبيرالية التي تتحمل مسؤولية فقرها وبطالتها”. كأن مشاكل الشباب العربي ومآزقه كلها وليدة هذه النظرة التي تصفها الباحثة بـ”الاستشراقية”. ذلك لأن النخبة الشبابية العربية المعولمة تشارك “الحكومات والمجموعات الدولية والولايات المتحدة المفاهيم”. الأمر الذي يحوّل شبان هذه النخبة مستشرقين محليين، يروّجون لرؤية نمطية للثقافة العربية (… متبنين) وجهة نظر النخب الرأسمالية العالمية”، من دون النظر الى “الفوارق والمظالم الاجتماعية البنيوية” في المجتمعات المحلية.
ما يفقد هذه الدراسة شيئاً من اهميتها، هو حصرها مشكلة الشباب كلها في هذه المسألة التي قد تكون جزءاً من المشكلة. كأن تقول مثلاً إن المأزق الاقتصادي الكبير في الدول العربية ينحصر في العولمة أو الاقتصاد النيوليبيراي، وأن مأزق الثقافة العربية وليد الفكر الاستشراقي. النظرة هذه تجديد لأخرى سابقة ترد “تخلف” المجتمعات العربية السياسي والاقتصادي الى “التجزئة” و”الاستعمار” و”نهب الثروات والموارد” المحلية. والحق ان هذه النظرة تبرز جلية في عدد لا باس به من مواد مجلة “بدايات” في عددها الأول، تماماً على خلاف الشهادات الكتابية التي نشرتها لشبان الثورات.

عالم “السراج المنير”

أفريل 15, 2012

محمد أبي سمرا

ملحق جريدة النهار في 14-4-2012

“جمعية السراج المنير” البيروتية واحدة من الجمعيات الدعوية السلفية المتكاثرة في مناطق لبنانية. في هذا الاستطلاع الميداني لمقر الجمعية واللقاء ببعض دعاتها في مقرّها بتلة الخياط، محاولة تعريف بها وبنشاطاتها. لكن الأبرز هو اكتشاف العالم اللغوي الرحمي المغلق الذي يسمّى أقوال السلف الصالح، واليه تُرَدّ الحوادث والوقائع وشؤون الحياة والمعيش والملبس وحركات الجسم، كأنما العالم اكتمل في لحظة أولى تتكرر الى الأبد.
حين قال محدثي في مقر “جمعية السراج المنير الاسلامية” ان الجمعية قديمة النشأة، وتعود الى العام 1407 تقريباً، سرحت بي مخيلتي الى ذلك الزمن الغابر من مطالع القرن الخامس عشر. نسجاً على منوال بعث الانساب وتجديدها على مثال خرافي، فكرتُ أن جمعية ما بهذا الاسم قد تكون وجدت قديماً في بيروت، ثم اندثرت في غضون تقلّب الأحوال والسنوات الماضيات، فلم يبق منها سوى اسمها الذي أحياه شيخ أو داعيةُ جماعة عائلية أو أهلية دينية في بيروت السنوات الأخيرة، واتخذه اسماً لجمعية جديدة ناشئة تتبع النهج الدعوي السلفي. واستقر مقام هذه الجمعية ونشاطها في شقة سكنية كبيرة في الطبقة الاولى من بناية في أطراف تلة الخياط البيروتية. لكن محدثي الشيخ سعد الدين الكبي مع جمع من دعاة الجمعية السلفية ومريديها في مقرّها الكثير الغرف، قد يكون انتبه الى ما بدر مني من دهشة وتفكر شطحا بمخيلتي الى القرن الخامس عشر، فبادر الى إخراجي من دهشتي وتفكري بأن أخذ يحاول تعيين العام الميلادي الذي يوازي العام 1407 في التقويم الهجري. بعد عملية حسابية بسيطة تمكّن الشيخ من تحديد تاريخ تأسيس “جمعية السراج المنير الاسلامية” بحسب التقويم الميلادي، فاذا هو العام 1987 تقريباً. ثم قال ايضاً إن التأسيس جرى في محلة الطريق الجديدة البيروتية، حيث كان للجمعية مقرّ نُقل، بعد سنتين أو ثلاث، أي في مطلع تسعينات القرن العشرين، الى المقر الجديد في طرف منطقة تلة الخياط أو منحدرها نحو محلتَي عائشة بكار شمالاً وكورنيش المزرعة جنوباً.

¶¶¶

ذهبت الى مقر الجمعية بناء على موعد مسبق، لكنني وصلت قبل الموعد بحوالى ثلث الساعة من ظهيرة النهار المحدد. صادفت على مدخل البناية مجموعة رجال وشبان يخرجون في زي إسلامي سلفي كامل، ولحىً طويلة تصل الى أسافل أعناقهم. كانوا كثيرين ومشهدهم مثيراً، ثم تبعتهم في الخروج من البوابة الحديد مجموعة اخرى في الزي والإهاب والسحنات نفسها. في شوارع تلة الخياط القريبة رحت أتمشى، وإذ طالعني هدوء وقلة عابرين وبنايات سكنية فخمة، تساءلت عن سر وجود “السراج المنير” ودعاتها ومريديها الكثيرين الذين رأيتهم في مثل هذه البيئة السكنية التي أحسب أنها تخلو من أمثالهم. لكنني حين عدت الى بناية المقر بعد ثلث الساعة، انتبهت الى أن الشارع والبناية يقعان في الناحية المكتظة من شوارع السكن الفخم في تلة الخياط. ثم إن من أرشدني الى الجمعية السلفية، والعارف بأحوال كثيرات من أمثالها، نبّهني، لاحقاً، الى أن معظم مريديها اليوم من فئات اجتماعية ما دون المتوسطة بقليل، وليسوا من العوام والحضيض الاجتماعي في الاحياء الشعبية البيروتية، كما أحسب وأظن. ذلك أن سلفية فتيان الشوارع في أحياء الاكتظاظ والحضيض، أولئك الذين يميلون الى الفتوّة أو القوة البدنية والإقبال على التعارك والمشاجرات والولاءات العصبية الأهلية والاحيائية (من حي) تختلف تماماً عن سلفية مريدي “السراج المنير” ومثيلاتها من الجمعيات البيروتية. يتجلى هذا الاختلاف في كثرة النسوة والفتيات في هذه الجمعيات التي يقتصر نشاطها السلفي على الدعوة والتثقيف الدينيين “المسالمين” من دون أي نشاط شارعي، وميل الى نعرات وعصبيات مسرحها الشارع والتعبئة الطائفية المتأججة، الا ما تعلق منها بالسجالات الدعوية والفقهية ذات الطابع الشعبوي المستمد من تلك الرحم اللغوية للسلف الصالح. والحق أن هذا ما أكده لقائي دعاة “السراج المنير” وحديثي معهم في مقرهم.

¶¶¶

الله بالخير، الله بالخير، أهلاً، الله بالخير، هي العبارة الأولى التي استقبلني بها الشيخ سعد الدين الكبي في غرفة داخلية من مقر الجمعية، بعد دقائق من مكوثي منتظراً في صالون الشقة، حيث مكتبة تكثر على رفوفها كتب التراث والفقه الاسلاميين. الكتب كلها مجلدة تجليداً فنياً، ومستفة موضبة خلف درف المكتبة الزجاجية على نحو ينبئ بأنها للزينة والاعلان ومن المقتنيات، اكثر مما هي للاستعمال والتداول والمطالعة. الشيخ الكبي، سريع الكلام من دون توقف، الا بصعوبة. كلما حاولت أن استوقفه لأسأله سؤالاً ما، حسب أنني سوف أساجله، فلا يدع لي إكمال سؤالي، فيتدافع كلامه منهمراً في سليقة عفوية هي وليدة المساجلات الفقهية التي يبدو أنه أمضى حياته كلها مقبلاً عليها ومستغرقاً فيها، في ما يشبه معارك كلامية متصلة. كلامه كله محفوظ عن ظهر قلب، أو مخزون في ذاكرة تفيض به وتستعيده في أداء شفوي تلقيني أو سجالي. وبرغم أن الكلام قد يكون مصدره القراءة في كتب الفقه والسنّة والحديث والسير النبوية، فإن غاية القراءة الحفظ من أجل التلقين والمباريات السجالية، من دون التفكير وإعمال الذهن في المقروء – المحفوظ من زمن السلف الصالح وفتاويهم وأحاديثهم وسيرهم. أما البشر فأشبه بدمى متحركة في مهب ذلك الزمن السالف ولغته الرحمية المغلقة. هذا إضافة الى أن الشيخ مصاب بعسر ما عصبي، يبدو أنه يحمله من طفولته، رجفة في صوته الرفيع، فيتداركها بترداد كلمة نعم بين كلمة واخرى، وكثيراً ما تندغم النعم بالكلمات من دون توقف.

¶¶¶

سألتُ الشيخ الكبي عن مؤسس الجمعية ونشاطاتها، فقال إن الشيخ عبد الهادي بن حسن وهبي من أبرز مؤسسيها، وهو من مواليد شحيم في إقليم الخروب، لكنه من زمانٍ مقيم في بيروت، وهو كان موجهاً ومرشداً للجمعية، قبل أن يصير رئيسها. حين طلبتُ مقابلة الشيخ وهبي، جاوب أحد الدعاة الحاضرين: الشيخ عبد الهادي مريض، سبحان الله. توجهتُ بأسئلتي الى الدعاة، فاستاء الشيخ الكبي، معتبراً أن غاية اللقاء وموضوعه هما التعريف العلمي بالسلفية، ثم شرع مجدداً في الكلام المتدفق. ومما قاله، إن كل مسلم حقاً سلفي في الضرورة، حتى في حال اندراجه في تيارات وتعريفات أخرى جزئية، تظل السلفية هي الأصل والمنبع. أما الزي وإطالة اللحى فمن علامات التقرب من الله والزهد، وليست علامة تحزب. الشريعة الاسلامية كل متكامل، ومتميزة عن سائر الشرائع الدينية والوضعية. ذلك أن الشريعة الاسلامية دخلت مع المسلم الى الخلاء حيث يقضي حاجته، نعم نعم نعم، اكرمك الله.

¶¶¶

أحد الدعاة: نحن ندير أعمال الجمعية وشؤونها. هدفها تعليمي دعوي، وهي تقيم محاضرات عن جوانب فقهية وأخلاقية. المحاضرة الأخيرة كان عنوانها “حسبي الله ونعم الوكيل”، سبقتها محاضرة “دعوة للحب”. أعمال الجمعية خيرية في مواسم الأضاحي ورمضان، إضافة الى دورات لتوعية الناشئة، من دون الدخول في المعمعة السياسية. للجمعية موقع على الانترنت للعمل الدعوي والتواصل يتم عبر الـ”فايسبوك”. داعية آخر: للندوات والمحاضرات نحصل على ترخيص من وزارة الداخلية، وندعو بعض عناصر أجهزة الأمن لحضورها. عدد الحاضرين ما بين 40 و80 شخصاً. أنا انتسبت الى الجمعية في العام 2001، وأعمل في مجال المحاسبة. داعية ثالث: لدينا قسم للفتاوى. أنا أردّ على الاتصالات الهاتفية التي يريد أصحابها الحصول على فتاوى في شؤون حياتهم اليومية. قسم الفتاوى رقمه الداخلي 105. أحوّل المتصلين على شيخ كي يردّ على استفساراتهم. عندنا أيضاً المكتبة العامة، وقسم للاعلانات والمطبوعات. في المقر 5 موظفين دائمين يتقاضون مكافآت مالية على أعمالهم، لكن معظمهم من المتطوعين. داعية رابع: أعمل معالجاً طبيعياً، بعد دراستي في الأكاديمية المفتوحة للطب الطبيعي في الكويت. يتمّ العلاج بالحجامة وكاسات الهواء. بعض الأخوة يعملون في مهنة المحاسبة. هناك أخ يعمل في تجارة العسل والأعشاب الطبية، وهو متطوع لإدارة المعهد الشرعي النسائي. الأخ الذي يداوم في قسم الاستقبال طالب في كلية الشريعة. أحد الأخوة يعمل في محل لبيع الهواتف المحمولة. موازنة الجمعية من التبرعات. داعية خامس: إضافة الى معهد “عائشة أم المؤمنين” النسائي، تدير الجمعية “دار زيد بن ثابت” لتحفيظ القرآن الكريم في الناعمة، وهو أنشئ قبل سنتين، صباحاً يستقبل الإناث وبعد الظهر يستقبل الذكور.

¶¶¶

زوّدني دعاة الجمعية بأكثر من 15 كتاباً للشيخ عبد الهادي بن حسن وهبي، معظمها صغيرة الحجم، تحوي أدعية وأقوالاً فقهية مجتزأة مذيلة بشروح ميسرة. في المنشور الإعلاني عن الجمعية ونشاطاتها إشارة الى طموحها “المستقبلي” الى “إنشاء مركز كبير (لها) وسط العاصمة، يكون منارة للهدى وسراجاً منيراً”. ذلك أن “مركزها الحالي لا يفي باحتياجاتها الدعوية”. في باب “التزكيات” وردت في المنشور الاعلاني أسماء سبعة من العلّم المشايخ المزكين أو المتبرعين. تدل الأسماء كلها على أن اصحابها من عائلات خليجية، مثل العثيمين، بن باز، جيرين، السدلان، البريك، أبو عبادة. في الأثناء عرّفني من أحضر لي الكتب بشابٍ من الدعاة حضر للتو الى مقر الجمعية، فقال معتزاً إنه طالب إدارة أعمال في الجامعة الاميركية في بيروت، وجاء طالباً استشارة الشيخ الكبي في أمر يتصل بحياته الشخصية. حين سلّمتُ على الطالب، ولفظ كلمات قليلة، تبين أنه يعاني من حسيةٍ في لسانه.

الشباب والنساء في مهبّ الثورات العربية

أفريل 1, 2012

محمد أبي سمرا

ملحق جريدة النهار في 31-03-2012

ماذا يعني قتل عشرات من شبان “الإيمو” في العراق، وتزويج فتاة قاصر من مغتصبها في المغرب، ومطاردة مئات من الشبان المصريين سائحة أجنبية ترتدي تنورة قصيرة في السويس، وفحص عذرية شابات الثورة المعتقلات في القاهرة، وتمرد طالبات الثانويات في اليمن، وضياع بعض طالبات السكن الجامعي في الجزائر، وعملهن بائعات هوى؟

هل جدّدت الثورات العربية المتلاحقة والمتزامنة سياقات الحوادث والظواهر السياسية والاجتماعية المتفرقة والمتباعدة، وغيّرت من دلالاتها في ما يتعلق بأحوال مجتمعات تسلطت عليها جماعاتها الحاكمة، وأغرقتها في الركود والتمزق، وسجنتها خلف جدران الكتمان والصمت؟
قد لا تكون الحوادث والظواهر المعنية جديدة وغير مسبوقة. لكن الجديد أن الثورات عرّضت المجتمعات والسلطات في بلدان الثورات وسواها من البلدان العربية، للانكشاف، وألقت الضوء على الحوادث والظواهر فيها، وجدّدت النظر اليها وغيّرت أطر تناولها وسياقاتها ودلالاتها. ذلك ان حقبة سياسية – اجتماعية مديدة تتهيأ للأفول. أما مصاعب المرحلة الانتقالية هذه، عسرها وتعثرها، وإحباطات الفئات المدنية والشبابية السبّاقة في إطلاق الحركات الاحتجاجية وتصدرها، وصعود تيارات الاسلام السياسي وجماعاته المختلفة وتصدرها المشهد العام، فهي من المسائل المرشحة للنظر والمناقشة والتبصر والتفكير راهناً، وربما على المدى الطويل. أما اولئك الذين ينظرون الى الثورات كحدث خلاصي، فجائي وناجز، ويدفعهم عدم وضوحه وترجحه وغموضه الى التشكيك في جدواه، ويأخذهم التحسر المرضي والرجعي على ما فات وانقضى، راغبين في توقيف الزمن ولجم التحولات السياسية والاجتماعية، وتفصيلها على مقاس نظرتهم الخلاصية ومواقعهم وأدوارهم، فيفوتهم أن ما حدث يستحيل الرجوع عنه، وأن رغباتهم تتماهى مع الاهتراء والاستنقاع المديدين اللذين سبقا الثورات.


في مهب هذه الحقبة الوليدة ومخاضها، هل من سياقات وأطر واضحة المعالم لتناول الحوادث والظواهر الاجتماعية المتدافعة، ومقاربة دلالاتها ومقارنتها في مرايا الثورات العربية؟
على سبيل المثال والتجريب والاختبار، ننتقي هنا اخباراً ومتابعات صحافية موسعة عن بعض الحوادث وردود الفعل عليها، في مصر والمغرب والجزائر واليمن والعراق، لنقدّم عرضاً موجزاً لها، ونكتشف بعض المعاني والدلالات المشتركة بينها. في العراق اثار قتل عشرات من شبّان “الإيمو” في بغداد وبابل استنكار المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان، على ما كتبت خلود العامري (“الحياة”، 12 آذار، 2012). “الإيمو” مصدرها كلمة “إيموشن” الانكليزية، أي العاطفة أو المشاعر الجياشة. وهي تطلَق على جماعات من الفتية والشبان والفتيات المراهقين الذين يهتمون بالملابس والعطور والاكسسوارات، ويتبادلون القبل علانية ويستمعون الى موسيقى الروك والراب، ويرتادون أماكن ومقاهي خاصة بهم، تعبيراً عن ابتعادهم من التقاليد والعادات المحافظة في مجتمعهم القاسي والعنيف في العراق، وفقاً لما كتب شاكر الانباري (“المستقبل”، 18 آذار، 2012). وكان شبان “الإيمو” قد ظهروا قبل سنتين أو ثلاث في مدينة طرابلس اللبنانية، وأثاروا لغطاً في مجتمعها المحافظ. أما ظهورهم اليوم في مدن عراقية فأدى إلى تعرّض بعضهم للقتل بأسلوب شنيع، من طريق سحق رؤوسهم بحجار كبيرة من الاسمنت. وزارة الداخلية العراقية اشارت الى مقتل 56 شاباً منهم، فيما بلغ عدد القتلى 90 في إحصاءات أخرى. حامت الشبهات حول “عصائب أهل الحق” الشيعية، الممولة من ايران، التي انشقّت عن “التيار الصدري”، وبدأت تنشط في الشارع العراقي في الشهور الاخيرة، وتتصرف كوصي على التقاليد الاجتماعية والدينية، بعدما سمح لها رئيس الوزراء نوري المالكي بإقامة استعراض علني، لإشراكها في العملية السياسية. لكن معلومات اخرى أكدت ان الاتهام يشمل ضباطاً أمنيين عراقيين يناصرون “التيار الصدري” و”عصائب أهل الحق”. لذا اصدرت وزارة الداخلية العراقية بياناً ينفي عنها الشبهات، ويحذر من “التجاوز على الحريات العامة في قمع ظاهرة الإيمو والترويج لها”. التحذير موجّه الى ناشطي حقوق الانسان والصحافيين الذين سلّطوا الضوء على الظاهرة وعلى جرائم القتل المروعة لشبانها. وأكد صحافيون تلقيهم رسائل تهديد تحذّرهم من تناول الظاهرة والجرائم.
لا يبدو أن حملة قتل شبان “الإيمو” تفاعلت على نطاق واسع ومشهود في العراق، برغم ضخامتها. فالمجتمع العراقي مرهق ومحطم، ولا يزال مسرحاً يومياً للتفجيرات والقتل العشوائي الممنهج. عدوى الثورات العربية التي اطلقت بعض التظاهرات الشبابية في مدن عراقية، سرعان ما جرى إخمادها بالقوة والحصار. هذا على خلاف المغرب الذي شهد تظاهرات واحتجاجات واسعة أدت الى تعديلات دستورية لا يستهان بها، انبثقت عنها حكومة تمثل فيها الاسلام السياسي تمثيلاً راجحاً. قوة المجتمع المدني وحراكه النشيط في المغرب ما بعد الثورات، أطلقا حملة واسعة من الاحتجاجات على حادثة انتحار فتاة قاصر (16 سنة)، بعد إجبارها على الزواج من مغتصبها، على ما تقتضي أعراف وقوانين قضائية تحمي المغتصب من العقاب في حال قبوله الزواج من المغتصَبة، في إطار ما يسمّى “ستر الفضيحة”. حملات الاعتراض والاحتجاج شملت تنظيم تظاهرات وتوقيع عرائض وتحرّك جمعيات حقوقية وحملات تضامن شعبي ووقفات امام البرلمان المغربي، وإقامة ندوات ومناقشات واسعة، لإعادة النظر في قوانين الأسرة التي تعفي المغتصب من العقاب وتمنحه حق الزواج من ضحيته.
برغم الاختلاف بين الحادثتين، العراقية والمغربية، وحجم كلٍّ منهما ووقعها وردود الفعل عليها، فإن القاسم المشترك بينهما، بروز مسألة حقوق الإنسان، وخصوصاً في الاوساط الشبابية التي يبدو ان الثورات ألقت الضوء عليها، وإن على نحو متفاوت بين العراق والمغرب.

في مصر تزدحم الحوادث والظواهر المتدافعة في مجتمع الحقبة الانتقالية المضطربة وبرلمانها الانتقالي الذي هيمنت عليه قوى الاسلام السياسي “الإخواني” والسلفي، ذي الثقل الانتخابي والاجتماعي الكبير في بلاد النيل، وحيث لا تزال السلطات التنفيذية الانتقالية في يد الجيش، وهذا ما أحبط الحركة المدنية والشبابية التي أطلقت الثورة وتصدّرتها. الإسلام السلفي المصري الذي أخذت الغفوة بعض نوّابه في الجلسة الأولى لبرلمان ما بعد الثورة، يتزايد نشاطه بقوة لافتة في المجتمع الأهلي. وهو يصدّر نجوم دعاته إلى كل من تونس ولبنان، لإقامة لقاءات ومهرجانات دعوية. وجدي غنيم من أشهر هؤلاء النجوم الذين شنّوا حملة تكفير واسعة ضد المسلمين الذين شاركوا في تشييع البابا شنودة الثالث القبطي المسيحي الى مثواه الأخير. الحملة هذه تتزامن مع استمرار السلفيين في دعمهم المجلس العسكري المتهم بقضية “فحص العذرية” التي اعتمدها سياسة رادعة ومذلّة للشابات المشاركات في الثورة. القضية هذه حملت بعض الشابات الجريئات من المعتدى عليهن على مقاضاة الأجهزة الامنية والعسكرية. هيئات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية غير الحكومية التي ناصرت الشابات ودعمتهن، تعرضت، أخيراً، لحملة شعواء، واتهمت بأنها غير قانونية وتتلقى مساعدات من الخارج، واعتقل بعض ناشطيها الأميركيين في القاهرة، وذلك لإثارة “المشاعر الوطنية” المصرية التي تشكل مناهضة السياسات الغربية عاملاً من عواملها. وهذا ما أضعف الناشطين المدنيين في جمعيات حقوق الانسان، وأسقط في أيديهم في جبههم الحملة الاعلامية المناهضة للأجانب ولقضية “فحص العذرية”.
لكن إحدى الشابات الناشطات سجلت بالصوت والصورة ما سمّته قصيدة في عنوان “فحص عذرية”، فبثّت الشريط على موقع “يوتيوب”، مستلهمةً ما فعلته الناشطة أسماء محفوظ عشية الثورة المصرية. تقول الشابة في قصيدتها التي كتبتها بالانكليزية وترجمتها الى العربية:
“مشفتش الخوف في عنيَّ/ ففتحت رجليَّ تدوّر عليه هناك؟!
شفت إيه لما بصيت؟!/ سمعت آهات المظلومين؟
شفت جثث الشهدا؟/ شفت – بلا مؤاخذة – حد بيبصلك بعين قوية؟
حسيت بإيه لمّا تف عليك؟/ شفت إيه لما بصيت؟
شفت جنين الحرية في الشهر الثالث؟/ شفت ما شا الله باسم الله عافيته الزاي؟
خوّفك إللي شفتو؟ أنا لو كنت محلّك بخاف.
أنت مقتنع فعلاً إنك أهنتني وكسرت عيني؟!
أنت غلبان قوي/ أنا مفيش حاجة في الدنيا عيزاها غير إنك تفهم الإصرار والغضب اللي جوايا/ ومفيش مكان في الدنيا صغير تشوفو أوضح من مطرح ما كنت بتبص… هناك جو اوي… فبص براحتك… بص وخاف… خاف أوي”.
تزامن بث هذا الشريط وكلماته في صوت الشابة، مع حادثة تناقلت الخبر عنها مواقع الكترونية مصرية كثيرة، إضافة الى صحف 16 آذار 2012. حصلت الحادثة في مدينة السويس، عندما قام عشرات من الشبان بتعقب سائحة دانماركية شابة ترتدي قميصاً وتنورة قصيرة جداً، أثناء سيرها في شارع سعد زغلول. أطلق الشبان الذين عاكسوا السائحة سيلاً من التعليقات والتحرشات، فلجأت الى متجر للملابس. لكن المطاردين تزايد عددهم في الشارع، فبلغ المئات. هذا حمل صاحب المتجر على الاتصال بالشرطة، فحضرت الى المكان وحدة كبرى من عناصرها، لكنها لم تستطع إخراج السائحة من المتجر، إلا بعد إطلاقها قنابل الغاز المسيلة للدموع لتفريق الحشود التي ملأت الشارع. نقل رجال الشرطة الفتاة الى مصفحة، وهي تبكي وفي حال من الدهشة والانهيار، حتى وصولها الى الفندق الذي تنزل فيه.
هل من حاجة الى استنطاق دلالات هذه الحوادث وصدورها عن هوس تناولته كلمات قصيدة “فحص عذرية”؟ هوس محوره الأنوثة وسفور المرأة، وهتك كرامتها الشخصية لفحص عذريتها حفاظاً على شرف الأهل، إذا كانت من ديارنا وأهلنا وحرمة لنا، والتهامها اذا كانت غريبة وأجنبية. الهوس هذا، أليس هو نفسه محور التدين السلفي والإخواني؟ لكن الجديد أن الحوادث الناجمة عن هذا الهوس، صارت اليوم مداراً للمناقشة العلنية المتنازعة بين قوى المجتمع وهيئاته، من دون أن تتمكن السيطرة المطلقة للسلطات من التلاعب بالحوادث ومواراتها خلف ستار من الخوف والتخويف.


في برنامج حوار تقدمه إذاعة “بي بي سي” اللندنية، وتناولت حلقة من حلقاته مسألة تزويج الفتيات من مغتصبيهن، اتصل بالإذاعة شخص سعودي، فاعتبر أن ارتياد الفتيات المرابع الليلية هو ما يؤدي الى اغتصابهن، واقترح قفل منتديات السهر الليلي للقضاء على ظاهرة الاغتصاب. وفي تحقيق صحافي عن أحوال الطالبات الجزائريات من نزيلات المسكن الطالبي الجامعي في الجزائر العاصمة، روى التحقيق الذي كتبته فتحية زماموش (“الحياة”، 12 آذار 2012) بعضاً من حالات ضياع طالبات وفدن من الأرياف للدراسة الجامعية ونزلن في المسكن الطالبي. في الصورة المرفقة بالتحقيق ظهرت عشرات من طالبات المسكن محجبات، فيما تنقل مقتطفات من سيرة ثلاث طالبات وقائع “انحرافهن” و”اضطرارهن” أو “انزلاقهن” الى العمل بائعات هوى، نتيجة انسلاخهن عن البيئة الريفية وحضانة الأهل، وتعرضهن لظروف الحياة المدينية “القاسية”. إحداهن تقول إن الحياة في حي السكن الطالبي الجامعي تشبه الحياة “في غابة”. وهي اضطرت الى أن تعمل نادلة في مقهى للحصول على نفقات معيشتها اليومية. أما الطالبة الأخرى فروت أنها تعمل بائعة هوى في حانة ليليلة، وتتعاطى المخدرات، فيما روت طالبة ثالثة “فائقة الجمال”، أنها “تصطاد الشبان والرجال الذين يركنون سياراتهم الفارهة ليلاً قرب بيت الطالبات”.
نسجاً على منوال اعتبارات صاحب الرأي في حوادث الاغتصاب، يجب الكف عن تعليم البنات وقفل المسكن الطالبي الجامعي في الجزائر، للخلاص من ظاهرة “انحراف” الطالبات بعد عملهن في النوادي الليلية التي دعا المتصل السعودي بالـ”بي بي سي” الى قفلها أيضاً. هذا يعني أن الحجر على النساء وإخراجهن من التعليم والعمل والحياة العامة، هما اللذان يعصمان المجتمع من “آفاته” كافة، ما دام خروج المرأة من محجرها أو محرمها الأسري والعائلي هو الباعث الوحيد على “الآفات” كلها. أما في اليمن – الذي اعتاد كثيرون من الرجال السعوديين على القيام برحلات سياحية فيه، والزواج من فتيات منه صغيرات عذراوات، زواجاً “سياحياً” موقتاً، ثم يتركونهن لأهلهن ويعودون الى ديارهم – فإن طالبات المدارس الثانوية اليمنية يتابعن اليوم ما يُعرف بـ”ثورة المؤسسات الهادفة الى تغيير قيادات متهمة بالفساد”، وفقاً لتحقيق صحافي كتبه علي سالم من مدينة تعز (“الحياة” 12 آذار، 2012). الصورة المرفقة بالتحقيق تظهر جمهرة من الطالبات اليمنيات المحجبات يسرن في تظاهرة ترفع لافتات تقول إن “تعيين بلاطجة مديري مدارس من اسباب فشل التعليم” و”مدرسة أسماء قررت إسقاط المديرة”. مثل هذه “الانتفاضات الطالبية” المستمرة في اليمن ضد إدارة المؤسسات التعليمية، قد تؤدي على المدى البعيد الى خلخلة ثقافة طاعة أولي الأمر التي يعتبرها باحثون من أركان الاستبداد الاجتماعي. وهو الاستبداد إياه الذي يُرغم فتيات يمنيات على زواج شبه اغتصابي من رجال سعوديين يسوحون سياحة جنسية في اليمن.

هذه الوقائع الجزئية في بلدان الثورات العربية وسواها، ليست جديدة. لكن إلقاء الضوء عليها وفتح أبواب عرضها وتقصيها ومناقشتها على نطاق واسع ومستفيض، قد يكون من نتائج الثورات ومراحلها الانتقالية الراهنة. ذلك أن المجتمعات العربية اليوم في حال من الحراك يصعب وقفه ولجمه والتكهن بمساراته في المدى القريب. أما اللافت في هذه الوقائع فهو ان مدارها يتمحور حول الحراك الشبابي والظواهر الشبابية، ومسألة حقوق النساء وأوضاعهن في المجتمعات العربية الثائرة والموقوفة في مهب الثورات.