منامات الرسَّامة

محمد أبي سمرا

ملحق جريدة النهار في 16-03-2013

 

لوحة لستيفانو دي ستاسيو

 

في قمرة الدوش الزجاجية الضيقة يغمرني بخار الماء المنهمر ساخناً على جسمي بعد منتصف ليلة الذكرى الستين لميلادي. أين هي تلك السنون، ماذا تكون، وكيف أتحسس انقضاءها وحضورها؟! هناك، وسط تراقص ذرّات العتمة في عمق عينيّ المغمضتين، بؤرة نور متحجر، كأنها قبر جنين في رحم امرأة. لا اذكر متى رسمتُ جنيناً داخل جمجمة مريم العذراء العارية إلاّ من حمّالة ثديين قصصتها من صورة فوتوغرافية ملوّنة لعارضة ازياء في مجلة للإعلانات. بعدما انهيتُ رسم اللوحة، سمَّيتُها “رحيق الأمومة”، وكتبتُ في دفتر مذكراتي: كلما حضرتني فكرة الانجاب والأمومة تخيلتُ، كما في منام، صفّاً من نساء عذراوات في فساتين ملائكية يجلسنَ في قاعة فسيحة فخمة على مراحيض عاجيّة انيقة، يتغامزن مبتسماتٍ كاشفاتٍ عن صدورهن، يُرضعن من اثدائهن العارية أجنّة وَلَدْنَهم من بيوض كبيرة. افكر أن رحمي نظيفة من دم الحمل، شعر عانتي متروك على حاله مذ نبت واستطال كدغل صغير في عراء جسمي. كلما لمستُ ذلك الدغل شعرتُ بأن انوثتي لا تغلّف جسمي وحركاتي كروح، كغشاء طيفيِّ، بل تنتشر ويتشربها كياني كومضات تثيرني، تفترسني من الداخل. أنوثة غلامية عاقر تنفر منها النساء اللواتي يعرضن أنوثتهن كغلالات طيفية حول أجسامهن الصقيلة الجلد كمرايا تذكّرني بقولة الشاعر المتهكم بأنني الرجل الوحيد بين الرسّامين في بيروت. نبرة صوته المتباطئة الواثقة تتردد أصداؤها في سمعي. عبارته ظلّت على حالها مذ سكنتني كسرٍّ تواطأنا على إبقائه غامضاً، كالمسافة الصامتة الثابتة بيننا. هنا في لوس انجليس صار ذلك الشاعر من رواة المشاهد المتخيلة من حياتي، وبدأتُ أتصوّر أن ولادتي قديمة كأول الخلق: ظلام سديمي ينشقّ كبروق خاطفة عن اللوحات التي رسمتُها، ثم تنطفئ كبقع النمش على جلدي.
أفتح في قمرة الدوش عينيَّ، فتعاودني مشاهد من كابوس أبصرتُه ليلة أمس: متغضنة الجلد كعجوز تلدني أمّي على سرير غيبوبة احتضارها في المصحّ. شعر عانتي فوسفوريّ يلتمع في وقفتي عاريةً قرب والدي. جمعٌ من الناس في صالون بيت أهلي الواسع، كمشهد مودِّعيّ عشية نهار سفري لدراسة الرسم في روما. جدتي تجلس منفردةً في زاوية الصالون تطرّز قطعة كبيرة من القماش. الصنّارات تنغرز في جلدي، وعلى جبيني إكليل من شوك. أمّي تصرخ بالأرمنية كلمات لا أميّز منها سوى اسمي. في نفق معتم أركض وأركض لاهثةً بين جماجم وعظام ينبعث منها نورٌ متحجر. جلد قدميّ الحافيتين يتسلّخ، فتلتصق منه مِزَق بالبلاط المزركش الملتهب متجمّراً في صالون بيت أهلي. على مقاعد الصالون جمعٌ من النسوة يحدّقن في صور يتبادلنها. على جدران قاعة معرض صور قديمة عن المجازر والتشرد الأرمنيَّين. أصوات نسوة الصالون تردّد: اسطنبول، تسالونيك، حلب، انطاكيا، القامشلي، بيروت. شاعري الكردي في بيروت يقذف عالياً في الفضاء عظاماً تتحول في تطايرها البطيء مركبات فضائية تنبعث منها أضواء تتصادم على إيقاع معزوفة جنائزية. خيوط من الدم ترتسم كمجرّات على الرمل في مدى صحراوي تحت شمس لاهبة. من أصوات النسوة اللاغطات أميّز صوت أمّي تروي حكايات عن والدها الذي رموه في فرن لصهر المعادن في اسطنبول. على شاطئ رملي مهجور ينتشر ضوءٌ قمري. مدير معهد الفنون في بيروت تلتمع صلعته، يتمتم راكعاً على الرمل، كأنه يصلّي. صديقتي الوحيدة المدرّسة في المعهد منتفخة البطن ممدّدة بعيداً على الرمل، عارية إلاَّ من حجاب يلفّ شعرها وعنقها، منفرجة الفخذين تصرخ بلا صوت صرخات المخاض.
أيقظني الصراخ المكتوم في منامي الكابوسي، فاذا بجسمي العاري على سريري مبلّلاً بعرق غزير. أهبّ واقفة، متجهة سريعاً الى الحمّام، قبل أن اضيء مصباحه ينهمر بولي غزيراً في المرحاض. أصداء تمتمات المدير في منامي تتردَّد في سمعي: قل هو الله أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفؤاً أحداً. كثيراً ما سمعنا، صديقتي وأنا، هذه العبارات وأمثالها تطلع عاليةً في أصوات طلبة متدينين ملتحين حوّلوا قاعة في الطبقة الثانية من المعهد مصلّىً لهم، بعدما كانت القاعة لرياضة كرة الطاولة، فأخذنا نقف على مدخلها نتفرج على المصلّين. ما إن يبصرنا إحدهم أو يشعر بوجودنا، حتى يرفع صوته بأدعية، كأنه يحذّرنا ويتوعدنا، فنغادر مدخل القاعة – المصلّى متضاحكتَين. من داخل القاعة سمعنا مرة صوتاً يصرخ: الله أكبر، الله أكبر على من طغى وتجبّر. مسرعتَين هبطنا درجات السلّم الى الطبقة الارضية، ثم دخلنا الى الكافيتيريا مقهقهتَين. لكن قهقهاتنا تلاشت في صخب الطلبة وزحامهم، قبل أن أسمع خلفنا صرخات: الله اكبر، الله أكبر، هيهات منّا الذّلة. اختلطت هذه الصرخات بكلمات أغنية تصدح من آلة تسجيل كبيرة وضعها صاحب الكافيتيريا على رفٍّ عالٍ خلفه: دخيلك حبيبي دفّيني. دخيلك طفّي لهيبي. اسمك بقلبي نار. دخيلك حبيبي، وجِّعني، اقتلني، صوتك حلم. شفافك نغم. احرقني حبيبي بنار حبّك، احرقني، اتركني مثل رماد السيكارة. من على مدخل الكافيتيريا طلعت صيحة: الى جهنّم وبئس المصير. التفتنا الى مصدر الصيحة، فاذا بشاب ملتحٍ في قميص وبنطلون أسودين حالكَين يقف في المدخل محدّقاً فينا بنظرة ثابتة من عينين معتكرتَين تراءى لي أنهما تنذران العالم كلّه بليل فاحم. تراجع الملتحي عن مدخل الكافيتيريا، فانطلقت من أقصاها صرخة: على نواح الطفّ وتاجر عاشوراء كبرتم يا غربان التاريخ. مثل الجميع التفتّ الى مصدر الصرخة، فإذا مُطلقها شاب ملتحٍ أعلم أنه من خلايا الطلبة الشيوعيين في المعهد. من حول الطالب تصاعدت هتافاتٌ صاخبة: شيوعية شيوعية/ ضد الرجعية. مقاومة مقاومة/ ضد الظلامية. مع تلاشي الهتافات هذه، تعالى من آلة التسجيل صوت المغنية الملتاع واضحاً: احرقني حبيبي، احرقني، طهِّرني بنار حبّك. نارك ولا جنّة هلي (أهلي).
بعد ظهير ذلك النهار، استدعانا مدير المعهد، صديقتي وأنا، الى مكتبه في الطبقة السادسة. قبل صديقتي دخلتُ المكتب، فهبّ المدير من خلف طاولة مكتبه الكبيرة لاستقبالنا. حيّيته، مددتُ يدي لمصافحته، تراجع قليلاً الى الوراء، وأخذ بحركة سريعة يربّت بكفّ يده على صدره. فجأة سمعتُ صديقتي خلفي تحيِّيه تحيةً لم أسمعها منها قطّ من قبل: السلام عليكم، السلام على من اتّبع الهدى. بعدما أغلقت الباب خلفها، أخذتْ تغنّي في صوت ضاحك لا يخفي مجونه الساخر: حبّك نار مش عايزة اطفيها، ولا خلّيها في لحظة تفوتني. حبّك نار. طفح وجه المدير بجمرة خجل مكتوم ضاعفت التماع صلعته، قبل أن يضع كفّيه على جبهته قائلاً في صوت مرتجف ملؤه الخوف: شو؟! سكراني؟! سكراني، أو محشِّشي؟! ثم ركض الى باب المكتب وأوصده من الداخل بالمفتاح، فتابعت صديقتي غناءها في صوت خفيض: حبّك مفرّحني فرحة طير بطيرانو. ودّك مهنّيني، قربك مخلّيني انسان لقى نفسه فيك بعد توهانو. في صوت تصنّعت نبرته الغضب سألني المدير إن كنا، صديقتي وأنا، مقيمتَين طوال النهارات في الكافيتيريا لنحفظ الأغاني! ظللتُ واقفة في مكاني حائرةً متفاجئة بسلوك صديقتي هذا الذي لم أتوقعه منها، ولا تُجاري كلٌّ منا الاخرى فيه، إلا في ما نستحضره أو نصنعه لنتبادل أداء أدوار تهكميّةٍ ساخرة في جلساتنا في بيت أهلي. أما هنا، في مكتب المدير وحضوره، فلم أدر ماذا أفعل وأقول، إذ تقطَّعت خيوط التواطؤ والانسجام بيننا. لقد تجاوزتني وتركتني وحدي، فكرت، فيما رأيتُها ترتمي على مقعد طويل في المكتب، فينحسر فستانها الأسود الطويل كاشفاً بهاء فخذيها المثيرتين، من دون أن تنتبه لعريهما الذي تخيّلتُ أنه أسال لعاب المدير، قبل التفاتتي السريعة نحوه، محدِّقةً في عينيه الزائفتين، كأنما منهما سال لعابه، فسألته: ماذا يريد منا حضرة المدير؟ ثم ناديتُ صديقتي باسمها، كأنني بنبرتي أتوسلها كي تصحو من شرودها، من غربتها عني وعن نفسها، فتكفُّ عن تركها العنان لجموح مخيّلتها في أدائها دوراً منفرداً على مسرح، آلمني أنني من متفرجيه المتفاجئين، بدل أن أشاركها في أداء أدواره.
قال المدير إننا نثير شغباً بين طلبة المعهد، وحذّرنا من عواقب أفعالنا. فجأةً قاطعتْه صديقتي قائلةً إنها ستترك هذه المزرعة وتهاجر الى كندا، ثم التفتت اليّ وسألتني إن كنت أريد الهجرة معها؟ وحضرة المدير ألن يهاجر معنا؟ قلت في نبرة محايدة، فشعرتُ بأن روحي تغادر كياني، تنأى مع بصري الشارد وتعانق نسائم خفيفة وضوءاً شفيفاً حول شجرة الصنوبر الوحيدة وسط هشيم نباتات برّي في قطعة الأرض المهملة خلف المعهد. منذ أخذت تساورني نوبات قنوط في ساعات التدريس جعلتُ ألجم شرودي بألاّ أدع بصري يزوغ هائماً ليعانق، عبر نافذة قاعة الصف، تلك الصنوبرة الوحيدة. لكنني في إطلالتي من نافذة مكتب المدير العالية في الطبقة الأخيرة من المبنى، تركتُ لروحي العنان كي تستعير للمرة الأولى من الطبيعة مشهداً تُسقِط عليه شعوراً باليأس والأسى والعزاء الرومنطيقي الحزين الذي جعلتُ صوره الأدبية والفنية مدار سخريتي مذ بدأتُ أرسم في عزلات مراهقتي البيروتية في بيت أهلي، ممتلئةً بنفوري مما تبعثه الطبيعة ومشاهدها في النفس من شجن غنائي جمالي كئيب يضفي على الوجود وآلام الكائن طهرانيةً خلاصية معزّية.
مزرعة؟ صار معهد الفنون مزرعة؟! قال المدير في صوت غاضب خفيض، محدِّقاً في وجه صديقتي، قبل تراجعه خطوات نحو طاولة مكتبه الكبيرة، متابعاً كلامه كأنه يلقي محاضرة: صار معهدنا مزرعة لأنه أخذ يستوعب ابناء الفقراء ليتعلموا فيه الفنون الجميلة التي كانت حكراً على مثيلاتكما وأمثالكما! صار مزرعة بعدما اهتدى شبّان من طلاّبه الى هويتهم وفطرتهم الطبيعية. فجأةً قاطعتْه صديقتي قائلةً: شو؟ بدّك إجمعلك فطرة رمضان لطلاّبك الفقرا؟! أو بدّك إعزمك الليلة ع الإفطار؟ إن شاء الله بعدك مفكَر حالك صايم؟ مَ (لقد) فطرت، صار لك ساعة بتاكل فخاذي بعيونك. شو مش عاجبينك فخاذي؟! والأغاني اللي غنّيتلك ياها، ما عجبتك كمان؟ بغنّيلك بعد؟
نظرتُ اليها، وفيما هي تغطّي بفستانها عري فخذيها معدِّلةً جلوسها على المقعد، شعرتُ بأنني استعيد مزاجي المسرحي المتواطئ معها، فقلت لها في نبرة سريعة: مش هلّق، مش هون، بعدين، هونيك، بكندا غنّيلو قد ما بدّك. في نهاية كلماتي هذه ابتلعتُ ضحكةً مقهقِهة تداركتُها بالتفاتة خاطفة نحو النافذة، فأبصرتُ صنوبرتي الوحيدة ساكنة يغشاها غبش من أثر ماء خفيف خلّفته في عينيّ ضحكتي المكتومة التي لا أتذكر صديقتي بعدها ألا في مشهدين أو ثلاثة: خروجنا من مكتب المدير، وهي تقول لي في صوت خافت إنها تعبت وستسافر لمدة أسبوع الى باريس. لم التفت إليها في تلك اللحظة. نبرة الحياد الخاوية في صوتها الذي سمعته آتياً من مكان بعيد خارج مشهدنا، فصلتني عنها، ثم خيّم بيننا صمت كئيب أثقل خطواتنا في الممر، فحدستُ فجأة بأنها ستسافر ولن تعود. من الأيام التي سبقتْ سفرها لم يبق في ذاكرتي سوى صوتينا محايدَين باردَين أثناء تبادلنا عبارات قليلة ذاوية، عبثاً حاولنا أن نبعث فيها شيئاً من روح الدعابة المعتادة بيننا. كلٌّ منا ادركتْ أنها تخفي عن الأخرى حقيقة مشاعرها. لم أُطلعها على يقيني بأنها لن تعود، لكنها كانت تتصرف كما لو أنها أعلمتني بذلك. في الأمسية السابقة لسفرها أتذكرني أنتظر عودتها في صالون بيت اهلي، ثم أتذكرها داخل غرفتها في البيت: خزانة ثيابها مفتوحة، حقيبة كبيرة على السرير، وهي ممددة على السرير الآخر تردّد كلمات أغنية أرمنية كثيراً ما كانت تتردد في أمسيات جلساتنا في الصالون. صامتةً وقفتُ في باب الغرفة. رأيت وجهها مبتسماً، فاقتربتُ منها، ولمحتُ على صدغيها دمعتين تسيلان من طرفَي عينيها. جلستُ قربها على طرف السرير. لم تلتفت إليّ، ولا توقفت عن ترداد كلمات الأغنية. من طرف عينها رشفتُ بشفتيّ الباردتين دمعة من دموعها، فارتعشنا مقهقهتَين قبل أن يخيم ذلك الصمت الثقيل، فوقفتُ عن السرير، وغادرتُ الغرفة من دون أن ألتفت خلفي. في الصباح أفقتُ في غرفتي مذعورةً من منام أبصرتُني فيه أركض عاريةً وسط جموع في ردهات مطار يذاع فيها اسمي. سريعاً قمتُ عن سريري، وعاريةً ركضتُ إلى الغرفة الثانية: الخزانة مشرعة، في داخلها ثياب صديقتي على حالها. الحقيبة الكبيرة في مكانها على السرير، وعلى السرير الآخر صورة التقطُّها لها ليلة دعونا المدير الى سهرة في بيت أهلي. ارتسمت ابتسامة حزينة على وجهي وأنا أحدّق في الصورة: هي تقف منحنية ممسكة بيديها رأس المدير الجالس على مقعد في الصالون، وضاحكةً تقبّل صلعته ملتفتةً إليّ. رميتُ الصورة أرضاً، على السرير استلقيتُ، فأغمضتُ عينيَّ محاوِلةً أن أغفو. متباطئةً ارتسمتْ في وعيي الضبابي صور منامي في ردهات المطار، لكنني في فستان أسود طويل أمشي وحدي بلا ذعر، كأنني طيف في معرض مشعشع بأضواء تنهمر على البلاط والتجهيزات الجديدة اللامعة بلا أثر إلاّ لما ينبئ بأن المكان خلا فجأة من الحياة قبل هنيهات قليلة.

أضف تعليق