سيناريو بطيء لمشاهد “العنطزة” و”التشبيح” في بعض نواحي بيروت

محمد ابي سمرا

جريدة النهار 30-10-2011

 

 

 

 

تحفل بيروت في وسطها الجديد وفي شارع الحمراء بمظاهر وظواهر تشكل مرآة لوجه من وجوه أحوال المجتمع اللبناني الراهنة. من هذه المظاهر فخامة التحديث العمراني والاسترسال في عبادة التمايز، وفوضى وانحطاط في إدارة شؤون العمران وتنظيمه. ومنها أيضاً تنامي عادات وقيم جزئية تتصل بما كشفت عنه الثورات العربية وسمي “البلطجية” و”الشبيحة”.

-1-

في طريق فرعية امام مقهى – مطعم نخبوي في وسط بيروت، غالباً ما تتوقف سيارات فخمة، معظمها من طراز رانج روفر “مفيّمة”، اي داكنة الزجاج، فيترجل منها اشخاص متأنقون، متباطئين متمهلين، ومثلهم يفعل السائقون، تاركين في السيارات مفاتيحها، وابوابها مشرعة. على الرصيف الفسيح امام المقهى – المطعم يمشون، بل يتمشون، رجالاً ونساء، كأنهم في حفل مشهود لعرض الازياء والسيارات، والتمايز الاجتماعي والشخصي، في الهواء الطلق طوال ما بعد ظهر النهارات التي يتواعدون فيها ويتداعون الى الغداء. مشهدهم الاستعراضي هذا، لا يكتمل من دون انشغالهم بمكالمات الهواتف المحمولة، وبمصافحات وقبلات وتبادل عبارات، قبل دخولهم الى المطعم، فيما يهرع “الفاليه باركينغ” المنتشرون على الرصيف وباب المطعم، الى السيارات المتوقفة وسط الشارع، فيغلقون ابوابها ويصعدون اليها، ثم يقودونها الى “الباركينغ”، او الى حيث يركنونها بمحاذاة رصيف شارع رئيسي يقف على ناصيته شرطي سير، يُنبىء تحادثه الدائم مع “الفاليه” عن صحبة “مهنية” متواطئة تجمع بينهما. بعد فراغهم من غدائهم، غالباً ما يحفل خروج الزبائن من المطعم، بالمشهد نفسه على الرصيف، وقوفاً ومكالمات هاتفية وتبادل كلمات ومصافحات وقبلات وداعية، في انتظار ان يحضر “الفاليه” السيارات، فيتركون ابوابها مشرّعة لدخول ركابها إليها، متمهلين متباطئين، قبل انطلاقهم بها في رخاء استعراضي باهر.

-2-

سائقو السيارات العابرة في هذا الشارع الفرعي، من سائر خلق الله ومن غير زبائن المطعم ورواده، ومن رواده في أوقات ومناسبات أخرى، من واجبهم ان يقفوا منتظرين ومستمتعين بالمشهد الاستعراضي الخلاب. اما المستغرَبُ وغير اللائق فهو الا ينبهر هؤلاء السائقون العابرون بما يشاهدون، وأن يتأففوا او يتذمروا من طول أوقات وقوفهم منتظرين خواتيم مشاهد الزهو والرفاه والتمايز والترف وسط الشارع وعلى الرصيف. وإذا لم تأخذ مهابة المشهد والموقف اياً من سائقي السيارات المنتظرين، فسولت له نفسه او ضيق وقته بأن يتأفف ويتذمر، فغالباً ما يلتفت اليه صاحب المهابة والسيارة المهيبة المشرعة الأبواب، التفاتة دهشة واستغراب وتعجب، تنطوي على تشاوف وتعال وإزدراء وصلف، بدل الخجل والاعتذار. كأنما الرجل صاحب الفخامة والالتفاتة، يقول لسائق السيارة المنتظر: ما بك؟! أنظر، ألا تبصر من أنا؟! وسيارتي هذه التي ترجلت منها لماذا اشتريتها؟! والمرأة هذه التي اصطحبها وسبقتني الى الرصيف، ألا تراها؟! الا تقدّر جمالها وأناقتها وزهوها بنفسها، وزهوي بها؟! إنك حقاً شخص جاحد، وغير راقٍ ولا متحضّر!

-3-

شارع الحمراء من أكثر المناطق اللبنانية والبيروتية التي شهدت حوادث “بلطجة” متصلة بالحدث السوري، وذلك لسببين، أو ثلاثة:
– شارع الحمراء ومنطقة رأس بيروت عموماً، هما الحيز الكوزموبوليتي المديني، الحيوي والأرحب في العاصمة اللبنانية، لاسيما لأنشطة الترفيه والتسوق، وللحياة الليلية لفئات شبابية منخرطة في قضايا الشأن العام والمجتمع المدني والتظاهرات الثقافية. ويكثر بين هذه الفئات الشبابية أصحاب الميول الليبرالية واليسارية المحدثة.
– وجود السفارة السورية في منطقة الحمراء، شارع المقدسي، وتداعي بعض المجموعات الشبابية الى وقفات احتجاجية في بعض نواحي الحمراء، وأمام السفارة السورية، تضامناً مع الشعب السوري الذي يتعرض للقمع والقتل اليومي على يد السلطات السورية.
– وجود مقر للحزب السوري القومي الاجتماعي في منطقة الحمراء، وكلام عن مشاركة عناصر من هذا المقر في حملات الاعتداء المنظم على شبان وفتيات الوقفات الاحتجاجية، الداعية الى احترام حقوق الانسان في سوريا.
هذه الأسباب – العوامل المتداخلة أبرزت في المدة الأخيرة ما يمكن تسميته سلوكاً “بلطجياً” مشهوداً في بيروت. لكن هذا السلوك لا يعدم سوابق كثيرة مشهودة كانت تتصل بالنظام السوري. فمنطقة رأس بيروت سبق أن كانت مسرحاً رئيسياً للحوادث المعروفة بـ”حوادث 7 أيار 2008”، والتي كانت “البلطجة” الأمنية والعسكرية وجهاً بارزاً من وجوهها.
اخيراً استعار بعض الناشطين الشبان اللبنانيين التسمية السورية الشائعة (الشبيحة) في وصفهم من يقومون بالاعتداء عليهم أثناء وقفاتهم الاحتجاجية في الحمراء، وأمام السفارة السورية. أما اصل هذه التسمية – الصفة، وفقاً لشهادات كتاب سوريين، فيعود الى تكاثر اقتناء فئة عليا من النخبة الأمنية والاقتصادية السورية، سيارات المرسيدس الفخمة من طراز “الشبح”، تعبيراً عن تمايزها ويسرها وقوة نفوذها، فشاعت تسمية هذه الفئة وبطانتها بـ”الشبيحة”، للدلالة إلى فسادها وثرائها غير المشروع. ثم راحت هذه التسمية تتسع لتشمل عصابات المهربين وفارضي الخوات على الأهالي، والمرتبطين عضوياً بأصحاب النفوذ والحظوة والثراء والسلطان الأمني في أجهزة الحكم السوري.

-4-

في نواحٍ من شارع الحمراء، لاسيما في شارع المقدسي، يروي ناشطون لبنانيون على بعض المواقع الالكترونية، أن عدداً من أصحاب المقاهي ومرابع السهر الليلي المتكاثرة والمزدهرة في الشارع، إما “يخضعون بطيبة خاطر لابتزاز” عناصر “الحزب هناك”، فيدفعون لهم “الخوة”، وإما “يتواطأون معهم، فيشغّلون في مقاهيهم ومرابعهم “موالين للحزب واستخباراته”، مما “يسمح” لهؤلاء “بتكاثر أعدادهم” والعيش على الخوة وأعمال “التشبيح” التي يقومون بها ضد شبان وشابات الوقفات الاحتجاجية، بالتعاون مع حرس السفارة السورية وجهازها الذي لا يميز ما بين العمل الديبلوماسي والأمني، نسجاً على منوال ما خبره اللبنانيون وجربوه طوال سيطرة جهاز المخابرات السوري على الحياة السياسية والإدارية والأمنية في لبنان حقبة الاحتلال – الوصاية السورية.
وأعمال “التشبيح” هذه يقوم بها ايضاً العاملون في بعض مواقف السيارات في شارع المقدسي، لارتباطهم إما بمقر الحزب وعناصره في الشارع، أو بعاملين في السفارة، لقاء السماح لهم (أي للفاليه باركينغ) بالعمل في مواقف السيارات. احتجاجاً على هذه الأعمال أنشأ عدد من الناشطين والناشطات من الجيل الشاب صفحة على “الفايسبوك” تدعو الى “مقاطعة بعض مقاهي شارع المقدسي” ومرابعه الليلية، على أن تكون الصفحة “مجهولة المنشِئ”، لتوثيق “المعلومات” المتعلقة بالموضوع، وتفعيل الدعوة الى المقاطعة، والطلب الى قوى الأمن اللبنانية بأن تكثف حواجزها في الشارع “لمنع الشبيحة من فرض سطوتهم على الناس”.

-5-

عودة الى بدء السيناريو المشهدي الموصوف اعلاه المتكرر على رصيف شارع فرعي امام مطعم في وسط بيروت، حيث يبرز ما يسميه المصريون “الفشخرة”، وقد تصح تسميته بـ”الفنطزة” او “العنطزة” في المحكية اللبنانية الدراجة، اي المبالغة والايغال في التباهي الصلف بالمظاهر والاستعراض المشهدي للتمايز الاجتماعي والتدله به حتى العبادة وازدراء الآخرين غير المصابين بهذه اللوثة المتفشية على نطاق واسع بين فئات من المجتمع اللبناني.
يشكل وسط بيروت الجديد مسرحاً ناشطاً ومزدهرا لهذه الظاهرة الاستعراضية، برغم أن شوارعه التي تحوط مجلس النواب، مغلقة ولا يسمح المرور فيها لغير المشاة، لأسباب امنية تجعلها اشبه بمنطقة مقتطعة من الوسط، وتسري عليها اجراءات استثنائية خاصة. واذا أضفنا قفل الطرق التي تحوط مبنى الاسكوا، اخيراً، تضيق مساحة الوسط المديني ويقل عدد الشوارع المفتوحة فيه. وسبق لاقامة الرئيس سعد الحريري في ما سمي “بيت الوسط”، ان اقفلت ايضا بعض الشوارع. اما الشوارع غير المقفلة، فغالباً ما تتكاثر على جنباتها، في وسطها احياناً، الحواجز الاسمنتية المصطفة لمنع وقوف السيارات، وللقيام بمهمات تنظيمية في ادارة السير وتبديل اتجاهاته، بديلا عن الاشارات الضوئية وعن اعمال شرطة السير. وفي ظهيرة كل نهار جمعة تتحول الشوارع المحيطة بجامع محمد الامين مرآباً ضخماً لسيارات المصلين في المسجد.
هذه العوامل كلها، تؤدي الى اختناقات يومية في السير في الكثير من نواحي الوسط وشوارعه القليلة المفتوحة. وفي هذا السياق تبرز ظاهرة تكشف عن الفوضى التنظيمية الادارية والامنية في تدبير شؤون حيز مديني عام يعتبر الأحدث والأكثر جدة في بيروت، ولا يزال الكثير من مرافقه ومبانيه قيد الانشاء والتجهيز. وهذا يبشر بأن التحديث والتجديد العمرانيين في ديارنا يقتصران على الاطناب والمبالغة في الفخامة والبذخ المظهريين، فيما ننسج في ادارة الفخامة العمرانية الجديدة والمحدثة والباذخة، وفي تنظيمها وتدبير شؤونها وتسييرها، على منوال فوضوي رثٍ ومتآكل، ولا يزال على حاله منذ نشوء مؤسسات الدولة اللبنانية واجهزتها الادارية والامنية العامة، وايغالها في التفسخ والانهيار في زمن الحرب وما بعدها.

أضف تعليق