Archive for the ‘إسقاط النظام الطائفي’ Category

في باب حديقة حرج بيروت الجديدة: شعاران واستعادة لمحطات من تاريخها

أكتوبر 20, 2011

 

محمد أبي سمرا

جريدة النهار 16\10\2011

 

 

 

بعدما أعيد إحياء حرج بيروت المستشهد في الحروب، تحول حديقة جديدة، جرى افتتاحها للعامة مدة وجيزة في العام 1999. فلماذا أغلقت واقتصر روادها على الخاصة من حملة تصاريخ من بلدية بيروت؟

“لماذا والى متى حرج بيروت مقفل بسبب النظام الطائفي؟”: انها العبارة التي كُتبت بطلاء اسود وبخط اليد على لوحة معدنية لصندوق من تجهيزات حديقة الحرج، مثبت في سوره الحجري الذي تعلوه قضبان سياجه. وعلى مسافة خطوات من اللوحة هذه، علّقت الى السياج الحديد لافتة من قماش ابيض، كتب عليها تساؤل – شعار آخر: “جورج ابرهيم عبدالله الى متى اسير في السجون الفرنسية؟”. ويحتاج قارىء الشعارين الى بعض من التبصر ليستنتج انهما يصدران عن طينة واحدة. فعبدالله متهم بتفجيرات “ارهابية” في باريس الثمانينات من القرن الماضي، حينما كان بعد شابا من اللفيف اليساري اللبناني الذي حملته غنائية شبابه الثوري على الالتحاق بأجهزة المنظمات الفلسطينية المسلحة والأمنية في مطابع الحروب الملبننة، ودفعته الى الاقدام على فعلته “الثورية – الارهابية” في العاصمة الفرنسية. وذلك في اطار ما كان يسمّى “العنف الثوري” الذي انخرطت مجموعات شبابية لبنانية في شبكاته الأمنية الرمادية، المتناسلة كالفطر منذ عشيات حروبنا.

 

 

طائفية الاحياء والأموات

آنذاك، اي في عشيات الحروب، كان حرج بيروت التاريخي القديم – وهو يعود الى عهد الامير فخر الدين المعني الثاني الكبير، في بعض الروايات التاريخية – بقعة خضراء مهجورة على حدود بيروت الادارية الجنوبية، يعبرها قليلون ممن شاؤوا اختصار الطرق ما بين الطيونة وقصقص، من دون ان يخلو عبورهم هذا من شيء من الوجل والخوف من زمر شبان من فتية الشوارع، ومن حشاشين و”سبقجية” يلجأوون، احياناً، الى الحرج الخالي المحاذي لميدان سباق الخيل، والقريب من حي المصبغة الذي تنزل فيه كثرة من سياس الخيل البعلبكيين، ونشطت فيه ايضا زمر فتيان الاحياء والشوارع الاشقياء، اشتهرت واحدة منها باسم “قرطة (زمرة) شهربان” التي كانت تسرح في الحرج وتمرح في ستينات القرن الماضي، حينما كانت الوظيفة العمومية الوحيدة للحرج، هي استضافته العاب “جرش العيد” في عيدي الفطر والاضحى. والارجح أن تقليد “حرش العيد” بدأ يذوي وينطفىء في مطلع السبعينات، بالتزامن مع انشاء دائرة جديدة في بلدية بيروت هي “دائرة الحدائق” التي أقيم لموظفيها مكتب في منشآت استحدثت آنذاك في نواح من الحرج. لكن الدائرة الادارية هذه ومنشآتها سرعان ما ترهلت وذوت، قبل ان تجتثها الحرب في العام 1975، وتحول الحرج ارضا للرعب ورمايات القناصين التي راحت تصيب جذوع اشجار الصنوبر المعمرة الباسقة، فتقتلها بطيئا بطيئا وواحدة تلو أخرى. ثم ما لبثت الحملة العسكرية الاسرائيلية على بيروت صيف 1982، ان قتلت ودمرت معظم ما تبقى أخضر من تلك الاشجار، وحولت الحرج ارضا لليباب.
قبل ذلك، ربما في خمسينات القرن العشرين، كان التخطيط المدني الجديد لبيروت وضواحيها الناشئة، وشق طرق جديدة اليها عبر الحرج، قد فصلا عن مساحته الاساسية مساحات من اطرافه، في محلتي قصقص والغبيري. وفي مطالع الحرب تحولت المساحات المفصوله هذه، مقابر لـ”الشهداء”. وبما ان تربة الموتى تنشد الصفاء الطائفي والمذهبي، عرفاً ومبدأ دينينين لا راد لهما ولا تهاون فيهما، واين منهما تهاون ارض الاحياء وديارهم التي ترغم البشر وتقصرهم على التجاوز والاختلاط؟! – فإن مقابر “الشهداء” الناشئة استقلت بقبورها وانفصلت استقلالاً وانفصالاً صافيين: واحدة او اكثر للسنة، لبنانيين وفلسطينيين، هي مقابر “الشهداء” في قصقص المتصلة بصبرا وشاتيلا الفلسطينيتين، والمتصلة ايضا بأطراف منطقة الطريق الجديدة، السنّية السكان، البيارتة والمهاجرين الى بيروت من قرى اقليم الخروب والعرقوب في اقصى جنوب لبنان الشرقي. اما مقبرة “روضة الشهيدين” الأحدث عهدا من مقابر “الشهداء” السنة، فنشأت في مطالع الحروب، في مساحة انفصلت من الحرج لجهة منطقة الغبيري، وخصصت لاستقبال “الشهداء” الشيعة النازلين في احياء الضاحية الجنوبية.
ومن غرائب احوال البشر في بلادنا وديارنا أن من كانت غنائية شبابهم الثوري، تجمعهم وتخلط بينهم وتوحدهم في بوتقة “نضالية” واحدة، بعدما تخرجهم من اهلهم وطوائفهم، مسلمين شيعة وسنة ومسيحيين، ومنهم جورج ابرهيم عبدالله وغيره وامثاله كثيرون، فصلت المقابر بينهم فصلاً صافياً وحاداً، بعد موتهم “شهداء” غنائية شبابهم و”نضالهم الثوري” الموحد، فووري كل منهم في مقبرة طائفته او جماعته واهله في القرى والمناطق. اما ما “استشهدوا” دونه وفي سبيله، فلم يذهب سدى وهباء منثوراً، ولم يكن سوى اضغاث اوهام قاتلة، فحسب، بل انه ادى الى عكسه ونقيضه: تدمير العمران والاجتماع، واتساع المقابر، وتسويرها ديار الاحياء، وتعميق المهاوي ورفع الاسوار الطائفية، ليس ما بين الاموات فقط، بل ما بين من اسعفهم قدرهم للبقاء على قيد الحياة، ايضاً. وهذا ما اصاب ما تبقى من حرج بيروت، بعد بعثه واحيائه من الموات، حديقة جديدة خضراء زاهرة، منذ العام 1999، بهمة “ايل دو فرانس” وتعاون بلدية بيروت معها. اما اللافتتان المنصوبتان على سور الحرج – الحديقة، فتنسجان على منوال غنائية جيل جورج ابرهيم عبدالله، وتجددها، كأن شيئاً لم يكن.
فتسمية عبدالله بـ”الاسير” والمطالبة باطلاق سراحه من سجون فرنسا “الاستعمارية” او “الامبريالية” في الرطانة اليسارية الثورية، من دون التبصر في فعلته “النضالية – الارهابية” تحاكيان المطالبة باطلاق سراح حديقة الحرج من “الاسر او الحجر الطائفي”، من دون التبصر في مؤدى هذه المطالبة وتبعاتها، وفي الظروف الراهنة التي حتمت عدم فتح ابواب الحديقة لكل الناس. ولنا في سابقة انشاء المبنى الجامعي الموحد في الحدث، مثال على ما يفعله اختلاط الطلبة اللبنانيين في ظل العسكرة الطائفية، وتحويل بعض الطوائف مناطقها معاقل لسلطانها العصبي المسلح. كأنما المطلوب هو تحطيم الحدود والحمايات التي تعصم الطوائف المعتصبة والمتعسكرة من الاقتتال والاحتراب، ومن استتباع هذه الطائفة لتلك، وليس نزع العسكرة الطائفية، ولجم سلطان الطوائف العصبي والعسكري على معاقلها الجغرافية والاهلية، قبل المطالبة بــ”الغاء الطائفية السياسية”، وقبل اطلاق شعار “اسقاط النظام الطائفي” الذي صاغه شبان يساريون مستعجلون على منوال لفظي خالص مستنسخ عن “الربيع العربي”: “الشعب يريد اسقاط النظام”. كأنما لدينا في لبنان نظام سلطوي ديكتاتوري قاهر، عماده الطائفية، كي ننادي باسقاطها، فيسقط النظام. هذا فيما يعاني لبنان من تحطيم نظام الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وتوزيعها اقطاعات على امراء الطوائف، وليس من النظام الطائفي الديموقراطي الذي عصم الدولة في لبنان من تحولها دولة سلطان ديكتاتوري على صورة الدول العربية ومثالها.

 

على باب الحديقة

على نحو مخاتل وموارب يطلب حراس بلدية بيروت من كل راغب في الدخول الى حديقة حرج بيروت الجديدة ان يكون لديه تصريح من بلدية بيروت. انا الذي كنت أعلم بأمر التصريح، تجاهلته، وتجاوزت بوابة الحديقة المقابلة لميدان سباق الخيل لجهة الطيونة، من دون ان التفت الى حراس البلدية او شرطتها الجالسين خلف البوابة. وحين ناداني احدهم طالباً مني التصريح، أقمت على تجاهلي، فشرح لي الامر قائلا ان الحديقة خاصة وتديرها السفارة الفرنسية، وليست عامة، وان زائريها او مرتاديها من الخاصة، وهم
من القضــــــاة والاطباء والمحامين… فقلت انني صحافي واريد القيام بجولة استطلاعية في الحديقة. سمح لي الشرطي البلدي بالدخول، على ان تكون جولتي اختبارا لحاجتي الى ارتيادها، قبل الحصول لاحقا على التصريح. وعن المبررات التي تحمل البلدية على منحي التصريح، قال الحارس انها صحية، كأن أكون، شأن غيري من الحاصلين على التصريح، مصاباً بمرض صدري يتعلق بالتنفس، كالربو مثلا او غيره. هذه الحجة المصطنعة مصدرها ثقافة شعبية محلية تنطوي على اعتبار التريض في الحدائق موقوفاً على المرضى وحاجتهم الى الاستشفاء، اي على “ذوي العاهات” وفقاً لما كان يكتب على المقاعد المنفردة في سيارات النقل العام المشترك (الاوتوبيسات) في زمن ما
قبل الحرب في لبنان. والعبارة تلك استبدلت بعبارة اخرى، هي “اصحاب الحاجات الخاصة”، تماشياً مع لغة ومفاهيم جديدة اشاعتها الجمعيات والمنظمات الانسانية المحدثة. اما الحارس البلدي فاستبعد الغاية الفعلية للحصول على التصريح، وهي ضبط الدخول الى الحديقة وتقنينه وقسره على الخاصة، للحؤول دون تشريع ابوابها
للعامة من الناس، لاسيما الفئات التي يُخشى ان تحولها مرتعاً عمومياً مشاعاً للاستباحة والتخريب، جرياً على عادات فئات لبنانية واسعة في سلوكها في الاماكن العامة، وخصوصا في الاوضاع والظروف الامنية والادارية الراهنة في لبنان، وفي بيروت وبعض ضواحيها على وجه التحديد.
فالحديقة كانت في بدايات انجازها في العام 1999، قد شرعت ابوابها لكل الناس، لكن سرعان ما استبيحت منشآتها، وتعرض بعضها للتخريب. واذا اضفنا الى هذه الظاهرة، ضعف الجهاز الاداري وغياب الصيانة الفنية وضآلة خبراتها في مجال صيانة الحدائق في بلدية بيورت، وما ينجم عن ذلك كله من
اهمال، نعلم لماذا تتكاثر في الحديقة المنشآت والتجهيزات المهملة، والاخرى المعطلة والخربة بسبب اعتداءات البشر. فما الداعي، اذا، الى استسهال رد تضييق فئات الداخلين الى الحديقة، عبر الحصول على ترخيص من البلدية، الى “النظام الطائفي”؟!
ان التذرع بالطائفية حيال اي معضلة يعيشها المجتمع والدولة في لبنان، ليس سوى شعار ببغائي للتستر على المعضلات الفعلية كلها وتجهيلها، والتهرب من التصدي الحقيقي لها، بذر الرماد في العيون.