Archive for 31 أكتوبر, 2011

سيناريو بطيء لمشاهد “العنطزة” و”التشبيح” في بعض نواحي بيروت

أكتوبر 31, 2011

محمد ابي سمرا

جريدة النهار 30-10-2011

 

 

 

 

تحفل بيروت في وسطها الجديد وفي شارع الحمراء بمظاهر وظواهر تشكل مرآة لوجه من وجوه أحوال المجتمع اللبناني الراهنة. من هذه المظاهر فخامة التحديث العمراني والاسترسال في عبادة التمايز، وفوضى وانحطاط في إدارة شؤون العمران وتنظيمه. ومنها أيضاً تنامي عادات وقيم جزئية تتصل بما كشفت عنه الثورات العربية وسمي “البلطجية” و”الشبيحة”.

-1-

في طريق فرعية امام مقهى – مطعم نخبوي في وسط بيروت، غالباً ما تتوقف سيارات فخمة، معظمها من طراز رانج روفر “مفيّمة”، اي داكنة الزجاج، فيترجل منها اشخاص متأنقون، متباطئين متمهلين، ومثلهم يفعل السائقون، تاركين في السيارات مفاتيحها، وابوابها مشرعة. على الرصيف الفسيح امام المقهى – المطعم يمشون، بل يتمشون، رجالاً ونساء، كأنهم في حفل مشهود لعرض الازياء والسيارات، والتمايز الاجتماعي والشخصي، في الهواء الطلق طوال ما بعد ظهر النهارات التي يتواعدون فيها ويتداعون الى الغداء. مشهدهم الاستعراضي هذا، لا يكتمل من دون انشغالهم بمكالمات الهواتف المحمولة، وبمصافحات وقبلات وتبادل عبارات، قبل دخولهم الى المطعم، فيما يهرع “الفاليه باركينغ” المنتشرون على الرصيف وباب المطعم، الى السيارات المتوقفة وسط الشارع، فيغلقون ابوابها ويصعدون اليها، ثم يقودونها الى “الباركينغ”، او الى حيث يركنونها بمحاذاة رصيف شارع رئيسي يقف على ناصيته شرطي سير، يُنبىء تحادثه الدائم مع “الفاليه” عن صحبة “مهنية” متواطئة تجمع بينهما. بعد فراغهم من غدائهم، غالباً ما يحفل خروج الزبائن من المطعم، بالمشهد نفسه على الرصيف، وقوفاً ومكالمات هاتفية وتبادل كلمات ومصافحات وقبلات وداعية، في انتظار ان يحضر “الفاليه” السيارات، فيتركون ابوابها مشرّعة لدخول ركابها إليها، متمهلين متباطئين، قبل انطلاقهم بها في رخاء استعراضي باهر.

-2-

سائقو السيارات العابرة في هذا الشارع الفرعي، من سائر خلق الله ومن غير زبائن المطعم ورواده، ومن رواده في أوقات ومناسبات أخرى، من واجبهم ان يقفوا منتظرين ومستمتعين بالمشهد الاستعراضي الخلاب. اما المستغرَبُ وغير اللائق فهو الا ينبهر هؤلاء السائقون العابرون بما يشاهدون، وأن يتأففوا او يتذمروا من طول أوقات وقوفهم منتظرين خواتيم مشاهد الزهو والرفاه والتمايز والترف وسط الشارع وعلى الرصيف. وإذا لم تأخذ مهابة المشهد والموقف اياً من سائقي السيارات المنتظرين، فسولت له نفسه او ضيق وقته بأن يتأفف ويتذمر، فغالباً ما يلتفت اليه صاحب المهابة والسيارة المهيبة المشرعة الأبواب، التفاتة دهشة واستغراب وتعجب، تنطوي على تشاوف وتعال وإزدراء وصلف، بدل الخجل والاعتذار. كأنما الرجل صاحب الفخامة والالتفاتة، يقول لسائق السيارة المنتظر: ما بك؟! أنظر، ألا تبصر من أنا؟! وسيارتي هذه التي ترجلت منها لماذا اشتريتها؟! والمرأة هذه التي اصطحبها وسبقتني الى الرصيف، ألا تراها؟! الا تقدّر جمالها وأناقتها وزهوها بنفسها، وزهوي بها؟! إنك حقاً شخص جاحد، وغير راقٍ ولا متحضّر!

-3-

شارع الحمراء من أكثر المناطق اللبنانية والبيروتية التي شهدت حوادث “بلطجة” متصلة بالحدث السوري، وذلك لسببين، أو ثلاثة:
– شارع الحمراء ومنطقة رأس بيروت عموماً، هما الحيز الكوزموبوليتي المديني، الحيوي والأرحب في العاصمة اللبنانية، لاسيما لأنشطة الترفيه والتسوق، وللحياة الليلية لفئات شبابية منخرطة في قضايا الشأن العام والمجتمع المدني والتظاهرات الثقافية. ويكثر بين هذه الفئات الشبابية أصحاب الميول الليبرالية واليسارية المحدثة.
– وجود السفارة السورية في منطقة الحمراء، شارع المقدسي، وتداعي بعض المجموعات الشبابية الى وقفات احتجاجية في بعض نواحي الحمراء، وأمام السفارة السورية، تضامناً مع الشعب السوري الذي يتعرض للقمع والقتل اليومي على يد السلطات السورية.
– وجود مقر للحزب السوري القومي الاجتماعي في منطقة الحمراء، وكلام عن مشاركة عناصر من هذا المقر في حملات الاعتداء المنظم على شبان وفتيات الوقفات الاحتجاجية، الداعية الى احترام حقوق الانسان في سوريا.
هذه الأسباب – العوامل المتداخلة أبرزت في المدة الأخيرة ما يمكن تسميته سلوكاً “بلطجياً” مشهوداً في بيروت. لكن هذا السلوك لا يعدم سوابق كثيرة مشهودة كانت تتصل بالنظام السوري. فمنطقة رأس بيروت سبق أن كانت مسرحاً رئيسياً للحوادث المعروفة بـ”حوادث 7 أيار 2008”، والتي كانت “البلطجة” الأمنية والعسكرية وجهاً بارزاً من وجوهها.
اخيراً استعار بعض الناشطين الشبان اللبنانيين التسمية السورية الشائعة (الشبيحة) في وصفهم من يقومون بالاعتداء عليهم أثناء وقفاتهم الاحتجاجية في الحمراء، وأمام السفارة السورية. أما اصل هذه التسمية – الصفة، وفقاً لشهادات كتاب سوريين، فيعود الى تكاثر اقتناء فئة عليا من النخبة الأمنية والاقتصادية السورية، سيارات المرسيدس الفخمة من طراز “الشبح”، تعبيراً عن تمايزها ويسرها وقوة نفوذها، فشاعت تسمية هذه الفئة وبطانتها بـ”الشبيحة”، للدلالة إلى فسادها وثرائها غير المشروع. ثم راحت هذه التسمية تتسع لتشمل عصابات المهربين وفارضي الخوات على الأهالي، والمرتبطين عضوياً بأصحاب النفوذ والحظوة والثراء والسلطان الأمني في أجهزة الحكم السوري.

-4-

في نواحٍ من شارع الحمراء، لاسيما في شارع المقدسي، يروي ناشطون لبنانيون على بعض المواقع الالكترونية، أن عدداً من أصحاب المقاهي ومرابع السهر الليلي المتكاثرة والمزدهرة في الشارع، إما “يخضعون بطيبة خاطر لابتزاز” عناصر “الحزب هناك”، فيدفعون لهم “الخوة”، وإما “يتواطأون معهم، فيشغّلون في مقاهيهم ومرابعهم “موالين للحزب واستخباراته”، مما “يسمح” لهؤلاء “بتكاثر أعدادهم” والعيش على الخوة وأعمال “التشبيح” التي يقومون بها ضد شبان وشابات الوقفات الاحتجاجية، بالتعاون مع حرس السفارة السورية وجهازها الذي لا يميز ما بين العمل الديبلوماسي والأمني، نسجاً على منوال ما خبره اللبنانيون وجربوه طوال سيطرة جهاز المخابرات السوري على الحياة السياسية والإدارية والأمنية في لبنان حقبة الاحتلال – الوصاية السورية.
وأعمال “التشبيح” هذه يقوم بها ايضاً العاملون في بعض مواقف السيارات في شارع المقدسي، لارتباطهم إما بمقر الحزب وعناصره في الشارع، أو بعاملين في السفارة، لقاء السماح لهم (أي للفاليه باركينغ) بالعمل في مواقف السيارات. احتجاجاً على هذه الأعمال أنشأ عدد من الناشطين والناشطات من الجيل الشاب صفحة على “الفايسبوك” تدعو الى “مقاطعة بعض مقاهي شارع المقدسي” ومرابعه الليلية، على أن تكون الصفحة “مجهولة المنشِئ”، لتوثيق “المعلومات” المتعلقة بالموضوع، وتفعيل الدعوة الى المقاطعة، والطلب الى قوى الأمن اللبنانية بأن تكثف حواجزها في الشارع “لمنع الشبيحة من فرض سطوتهم على الناس”.

-5-

عودة الى بدء السيناريو المشهدي الموصوف اعلاه المتكرر على رصيف شارع فرعي امام مطعم في وسط بيروت، حيث يبرز ما يسميه المصريون “الفشخرة”، وقد تصح تسميته بـ”الفنطزة” او “العنطزة” في المحكية اللبنانية الدراجة، اي المبالغة والايغال في التباهي الصلف بالمظاهر والاستعراض المشهدي للتمايز الاجتماعي والتدله به حتى العبادة وازدراء الآخرين غير المصابين بهذه اللوثة المتفشية على نطاق واسع بين فئات من المجتمع اللبناني.
يشكل وسط بيروت الجديد مسرحاً ناشطاً ومزدهرا لهذه الظاهرة الاستعراضية، برغم أن شوارعه التي تحوط مجلس النواب، مغلقة ولا يسمح المرور فيها لغير المشاة، لأسباب امنية تجعلها اشبه بمنطقة مقتطعة من الوسط، وتسري عليها اجراءات استثنائية خاصة. واذا أضفنا قفل الطرق التي تحوط مبنى الاسكوا، اخيراً، تضيق مساحة الوسط المديني ويقل عدد الشوارع المفتوحة فيه. وسبق لاقامة الرئيس سعد الحريري في ما سمي “بيت الوسط”، ان اقفلت ايضا بعض الشوارع. اما الشوارع غير المقفلة، فغالباً ما تتكاثر على جنباتها، في وسطها احياناً، الحواجز الاسمنتية المصطفة لمنع وقوف السيارات، وللقيام بمهمات تنظيمية في ادارة السير وتبديل اتجاهاته، بديلا عن الاشارات الضوئية وعن اعمال شرطة السير. وفي ظهيرة كل نهار جمعة تتحول الشوارع المحيطة بجامع محمد الامين مرآباً ضخماً لسيارات المصلين في المسجد.
هذه العوامل كلها، تؤدي الى اختناقات يومية في السير في الكثير من نواحي الوسط وشوارعه القليلة المفتوحة. وفي هذا السياق تبرز ظاهرة تكشف عن الفوضى التنظيمية الادارية والامنية في تدبير شؤون حيز مديني عام يعتبر الأحدث والأكثر جدة في بيروت، ولا يزال الكثير من مرافقه ومبانيه قيد الانشاء والتجهيز. وهذا يبشر بأن التحديث والتجديد العمرانيين في ديارنا يقتصران على الاطناب والمبالغة في الفخامة والبذخ المظهريين، فيما ننسج في ادارة الفخامة العمرانية الجديدة والمحدثة والباذخة، وفي تنظيمها وتدبير شؤونها وتسييرها، على منوال فوضوي رثٍ ومتآكل، ولا يزال على حاله منذ نشوء مؤسسات الدولة اللبنانية واجهزتها الادارية والامنية العامة، وايغالها في التفسخ والانهيار في زمن الحرب وما بعدها.

رحلة المهانة والتنكيل

أكتوبر 23, 2011

محمد أبي سمرا

الملحق 22-10-2011

تقدم هذه الشهادة رواية ناشط سوري عن يوميات الانتفاضة وتظاهراتها في مدينة بانياس، وعن هجوم وحدات الجيش والأمن والشبيحة على بلدة البيضا القريبة منها.

بعدما جلت الأجهزة الأمنية عن بانياس، وأخلى رجالها مقارهم من محتوياتها وقفلوا أبوابها ليلة الجمعة – السبت 2 نيسان، عاش أهالي المدينة في حال من القلق والحيرة والترقب، يخالطهم شعور غريب وجديد بالتحرر من سطوة تلك الأجهزة ورقابتها المزمنتين. فالتحرر هذا كان محاصراً بحواجز رجال الأمن على الطرق المؤدية الى المدينة، والتي تخرج منها، فيما وحدات من الجيش ودباباته ترابط على تخومها وتضرب عليها حصاراً، عطل الأعمال ودورة الحياة العامة فيها. كل شيء كان جديداً علينا في تلك الأيام الاولى من نيسان. حتى ضوء النهار في الشوارع وعلى البيوت كان جديداً وغريباً، كأنه يطيل مكوثه في الأماكن، كالأصوات التي صارت أشد وضوحاً ومتطاولة الأصداء في أسماعنا، فيما نحن ننشط لحشد المتظاهرين وتسيير التظاهرات اليومية.
في نهار من تلك النهارات دُعينا، نحن مجموعة من الشبان، الى حضور اجتماع في منزل تاجر ميسور في بانياس. ضم الاجتماع زهاء 50 شخصاً من وجوه العائلات ورجال الأعمال والتجار المعروفين بعلاقاتهم المتفاوتة ببعض أركان الحكم ومقدمي الأجهزة الأمنية. وحضر أيضاً المجلس البلدي ورئيس البلدية في المدينة، وجمع من الأطباء والمهندسين ومدرّسي الجامعة. كنا نحن الشبان نعلم مسبقاً أن لدى الداعين الى الاجتماع تفويضاً من مقدمي أجهزة الأمن المركزي في طرطوس، وأنهم مكلفون العمل على تهدئة الوضع في المدينة، وحملنا على العزوف عن التظاهر. بعد زهاء ساعتين من المناقشة وتبادل الرأي انفض الاجتماع الذي تعهد فيه بعضنا، نحن الشبان، على مضض، وقف التحريض على التظاهر والدعوة اليه، فيما ظل آخرون منا صامتين، كناية عن رفضهم هذا التعهد.
بعد صلاة الجمعة 7 نيسان، خرجت من مسجد أبي بكر الصدّيق تظاهرة صغيرة، شارك فيها ما بين 200 و300 شاب، بعضهم من بانياس وكثيرون منهم من بلدتي البيضا والبساتين القريبتين. وفي الطريق الى ساحة السنتر – التحرير، انضم الى المتظاهرين زهاء 60 شاباً. لم يمكث شبان هذه التظاهرة الصغيرة وقتاً طويلاً في الساحة، فغادروها قبل صلاة العصر. لكن وفاة الشاب أسامة الشيخة في المستشفى فجر الاثنين 10 نيسان، متاثراً بجروحه الخطرة جراء إصابته برصاصات رجال الأمن العشوائية التي أطلقوها في الشوارع قرب جامع أبي بكر صبيحة 2 نيسان، جدّدت غضب أهالي بانياس وغيرها من القرى، وسخطهم، فخرج أكثر من 10 آلاف شخص في جنازة الشيخة. فبعدما نُقل جثمانه، صباح الاثنين، الى بيت أهله في قريته القريبة، البساتين، انطلق منها موكب تشييعه، عابراً في القرى التي خرجت جموع من أهلها وانضمت الى الموكب الذي أخذ يكبر ويكبر في الطريق الى جامع أبي بكر في بانياس، حيث صُلّي على الجثمان، وانطلقت الجنازة مجدداً في شوارع المدينة.
كان قد سبق الشيخة في الاستشهاد أربعة شبان قضوا في إطلاق رجال الأمن رصاص بنادقهم العشوائي على حي القلعة، بعد ظهر السبت 2 نيسان، فدفنوا في النهار التالي. لكن الشيخة كان الشاب الاول الذي أصيب في الهجوم الأمني على المدينة فجر السبت نفسه، وتوفى بعد أسبوع من تحرر بانياس من القبضة الأمنية وحصارها من خارجها، فاعتبرناه شهيدها الأول، وتحولت جنازته تظاهرة كبرى سارت الى مثواه الأخير في قريته البساتين. موكب التشييع – التظاهرة الحاشدة، وأخبار التظاهر والقتل اليومي في درعا، وخروج تظاهرات كبرى في حمص وداريا ودوما في ريف دمشق، ألهبت حماسة أهالي بانياس، وبعثت فيهم العزم على مواصلة التظاهر، برغم تردد فئة منهم، فضّلت التريث والانتظار.

النساء في الشوارع

بعد صلاة ظهيرة الجمعة 14 نيسان، خرجت من مساجد بانياس الى ساحة السنتر – التحرير، تظاهرة حاشدة. مكث المتظاهرون في الساحة حتى أقاموا صلاة العصر، فألقى مثقفون إسلاميون وليبيراليون ويساريون كلمات دعوا فيها الى مواصلة التظاهر حتى إسقاط النظام، فخرجت ظهيرة الثلثاء 18 نيسان تظاهرة اخرى كبرى تجمعت روافدها في الساحة نفسها التي كانت على موعد مع استمرار التظاهر ظهيرة الجمعة 21 نيسان، ومع خروج النساء للمرة الأولى الى شوارع بانياس، متظاهرات في جموع منفصلة عن الرجال. امرأة في الثلاثين من عمرها وقفت خطيبة في النساء المحتشدات في ناحية من الساحة، فدعتهن الى مواصلة المشاركة في التظاهر، والى الخروج غدا السبت في تظاهرة نسائية، دعماً لأهالي درعا وإحياء لذكرى شهدائها، واحتجاجاً على هجوم الجيش عليها وعلى اللاذقية التي يتعرض أهلها للقتل اليومي أيضاً. في ظهيرة السبت 22 نيسان، احتشدت جموع من نسوة بانياس وقراها القريبة متظاهرات في ساحة التحرير، من دون مشاركة الرجال. وفي أثناء التظاهر اتصل بعض من أهالي مدينة جبلة بأقاربهم ومعارفهم في بانياس، وقالوا إن مدينتهم تتعرض لهجوم عسكري، فتداعى أهالي بانياس الى التظاهر غداً، الأحد 23 نيسان، الذي خرجوا في صبيحته جموعاً من رجال ونساء وشبان وشابات، وتوجهوا الى الأوتوستراد الذي يعبر في طرف مدينتهم، ويشكل شريان حركة المواصلات ما بين اللاذقية شمالا وطرطوس جنوباً على الساحل السوري. عطلت الحشود حركة السير على الأوتوستراد، لكن النساء وحدهن مكثن محتشدات في وسطه حتى المساء، احتجاجاً على العملية العسكرية في جبلة، وللمطالبة بوقفها.

خوف وتظاهرات ليلية

بعد تظاهرة الأوتوستراد، أخذت تصل الى بانياس تهديدات مصدرها المحافظ في طرطوس، وتفيد بأن ساحة السنتر – التحرير ستتعرض لهجوم رجال الأمن، في حال استمر تجمع المتظاهرين فيها. مع التهديدات أُشيع أن المحافظ على استعداد لتلبية ما يريده أهالي بانياس من المطالب، برغم استيائه من خرقهم تعهداتهم السابقة عدم التظاهر. وحين طالبنا بإطلاق سراح معتقلي جبلة الذي يبلغ عددهم زهاء 70 شخصاً، وعد المحافظ بإطلاقهم بعد نهار الجمعة 28 نيسان، حالما يعلم أننا لم نخرج الى التظاهر. إذذاك اشترطنا أن يقدم المحافظ على الاعتذار علناً في وسائل الاعلام، من أهالي جبلة وبانياس. كنا موقنين أن مطلبنا هذا مستحيل، وأخذنا ننشط في الاعداد لتظاهرة الجمعة المقبلة، وسط تكاثف شائعات عن عزم رجال الأمن على اقتحام ساحة التحرير. لذا قررنا التظاهر الى ساحة دوار البلدية التي رأينا أنها أسهل على الحماية، وشهدت تظاهراتنا الأولى. وبرغم خوفهم من التعرض للخطف او الاعتقال على حواجز رجال الأمن خارج بانياس، أقدم بعض من عائلاتها على مغادرتها الى طرطوس وحلب ودمشق، خائفين من تعرض مدينتهم لاقتحام أمني وشيك. لكن الخوف لم يقلل من عزمنا على تشجيع الأهالي على التظاهر، ولطمأنتهم وضعنا، مع مجموعات منهم، خطة لحماية المتظاهرين في الساحة وفي الشوارع المؤدية اليها، حيث توزعت حواجز من الشبان والرجال يحملون العصي والسلاح الابيض، من خناجر وسكاكين وسيوف وقضبان من الحديد، إضافة الى بعض من بنادق “البومب أكشن” والكلاشنيكوف في مواضع خلفية، لاستعمالها في حال تنفيذ رجال الأجهزة الأمنية تهديدات المحافظ باقتحام الساحة وإطلاقهم النار على المتظاهرين. والحق أن الخوف وتوقع الهجوم، دفعا زهاء 15 الف شخص من أهالي بانياس وقراها، وخصوصاً من بلدة البيضا والبساتين، الى الاحتشاد في مساجد مدينتنا للصلاة في ظهيرة الجمعة 28 نيسان، قبل اندفاعهم الى الشوارع متظاهرين في اتجاه ساحة دوار البلدية، وهاتفين بحماسة غير مسبوقة لله وسوريا وللحرية، ولاسقاط النظام. على خلاف التظاهرات السابقة، لم تستغرق تظاهرة الجمعة هذه أكثر من 3 ساعات، تفرقت الجموع بعدها، وخلت الساحة تماماً من الناس.
في الأيام التي تلت تظاهرة هذه الجمعة في 28 نيسان، استمر خروج التظاهرات يومياً الى شوارع مدينتنا، فيما كانت بلدة البيضا وغيرها من القرى القريبة منها، تتعرض لهجوم امني وعسكري كبير، فتصل الينا اخباره اليومية مع تكاثر الأقاويل والشائعات عن اقتراب موعد اقتحام بانياس التي اخذت تخرج جموع من شبانها واهلها في تظاهرات ليلية مدفوعة بالقلق والخوف من البقاء في البيوت، ودفعاً للقلق والخوف.

ليلة البيضا السوداء

كانت الاجهزة الامنية تعلم ان شبان بلدة البيضا التي تبعد عن بانياس زهاء 10 كلم، ويقيم كثيرون منهم في مدينتنا، هم الشبان الانشط في تحريك التظاهرات وحشدها وتنظيمها. وكان محافظ طرطوس قد بعث الى اجتماع الوجهاء الاخير في بانياس، لائحة باسماء زهاء 300 شاب من شبان البيضا، مطالباً بتسليمهم الى الجيش، متعهدا اطلاق سراحهم، بعد الحصول على افاداتهم، باعتبارهم من اطلقوا النار على الجنود الذين قتلوا في محلة رأس النبع في 2 نيسان، ويعلم اهالي بانياس ان العقيد، قائد وحدتهم العسكرية، هو الذي اطلق النار عليهم، بعد رفضهم اوامره بإطلاق النار على حي القلعة. وبحجة عدم استجابة اهالي البيضا وبانياس طلب المحافظ والجيش، بدأت وحدات عسكرية وامنية وزمر الشبيحة بالهجوم على البيضا، بعد تظاهرة بانياس الحاشدة نهار الجمعة 28 نيسان. مهّد الجيش للهجوم بقصف مدفعي كثيف على البلدة، قبل ان تدخلها وحداته التى قال جنودها للأهالي ان هدفهم مصادرة السلاح الذي استعمله شبان من بلدتهم في قتل الجنود في بانياس. هذا بعدما كان القصف المدفعي قد قتل رجلاً من الاهالي قرب بيته، وآخر في حي النصارى على طرف البلدة. وسط تقدم الجنود واطلاقهم نيران بنادقهم الرشاشة في الطرق وعلى البيوت، يتبعهم رجال الامن والشبيحة الذين بدأوا باعتقال الرجال عشوائيا وضربهم وشتمهم، فر شبان البيضا من بيوتهم هاربين الى الحقول والبساتين. استمرت مثل هذه الاعمال ساعات انتهت بجمع زهاء 300 رجل من الاهالي في ساحة بلدتهم، بعدما دخل رجال الامن والشبيحة من القرى القريبة، الى البيوت وأطلقوا النيران على اثاثاتها ثم حطموها، ونهبوا مدخرات اصحابها المالية التي قدِّرت، لاحقا، بمئة مليون ليرة سورية ومليونين من الدولارات الاميركية، اضافة الى مجوهرات النساء.
استمر احتجاز الرجال في ساحة البيضا ليلة كاملة منطرحين ارضا، مقيدي الايدي والارجل، فيما رجال الامن والشبيحة ينهالون عليهم رفساً بأقدامهم، وضربا بالعصي وبأعقاب البنادق، شاتمين امهاتهم ونساءهم وبناتهم واخواتهم أقذع الشتائم. بين ساعة واخرى من تلك الليلة المعتمة – اذ كانت الاتصالات والتيار الكهربائي قد قطعا عن البيضا وغيرها من القرى القريبة – كان رجال الامن والشبيحة يعتلون ظهور الرجال المرميين ارضاً، متقافزين عليها هاتفين صارخين: الله وسوريا وبشار وبس، ثم يقومون بجر بعض الرجال من ارجلهم، مسددين الى رؤوسهم رفسات من اقدامهم على وقع صرخاتهم: بدكن حرية يا منايك، بدكن حرية؟! خود حرية ولاه، خود ولاه خنزير. وفي اثناء نوبات الرفس هذه والقفز على الظهور، كان هذا او ذاك من رجال الامن والشبيحة ينادي قائلا للآخر: شوف هالخنزير هاد، شوف. ليك هالخنزير هاد، ليك هالكلب ابن الكلب، يا قرد، قال بدّو حرية، قال… خود حرية يا حيوان… خود… مش عارف انو بشار ربكم، ولاه؟!
مع انبلاج الفجر انهى رجال الامن والشبيحة افعالهم هذه، بإحضار عدد من الباصات الى ساحة البيضا. وبعدما افرغوا من مثاناتهم البول على اجسام الرجال ورؤوسهم وفي افواههم، فكّوا ايديهم وارجلهم المقيدة، وأدخلوهم الى الباصات، ثم ساروا بهم متجهين الى القرى التي خرجت جماعات من اهلها الى الطرق لاستقبال رجال البيضا بنوبات جديدة من طقوس الاهانات والشتائم والتشفي. فما إن كانت الباصات تصل الى هذه القرية او تلك، حتى يصعد اليها جمع من نسائها ورجالها وشبانها، فينهالون على الرجال المعتقلين او الاسرى بأقذع الشتائم، باصقين على وجوههم التي تروح قبضات بعض شبان القرى تنهال عليها بلكمات الحقد وسط زغردات النسوة، وصرخات رجال الامن والشبيحة المتهكمة، فيما يصرخ هذا الشاب او ذاك برجال الامن قائلا: اعطونا هذا الراس لنذبحه، شقد حق هالراس، شقد؟ عشرة آلاف؟ هاي عشرة آلاف، عطونا ياه لنذبحو.
حتى الظهيرة استمرت جولة المهانة والحقد هذه في القرى، فقاد رجال الامن والشبيحة الباصات برجال البيضا الى فرع الامن العسكري في طرطوس، حيث بدأت من جديد نوبات تعذيبهم مع زهاء مئة رجل وشاب من بانياس كان رجال الامن قد اعتقلوهم على الحواجز والكمائن التي نصبوها على الطرق المؤدية اليها. وفي سجون الامن العسكري والسياسي بطرطوس، تعرض بعض الرجال والشبان الاربعمئة المعتقلين لتعذيب منهجي، فكسرت ارجل كثيرين، ونُتف الشعر من ذقون الذين يطيلون لحاهم، وفقئت عيون ما لا يقل عن خمسة رجال.
صبيحة النهار التالي خرجت نسوة البيضا من بيوتهن في البلدة، وسرن على اقدامهن مسافة تزيد اربعة كيلومترات، حتى بلغن الاوتوستراد القريب من بانياس، التي خرجت مجموعات من نسوتها ايضا، فاشتركن مع نساء البيضا في تعطيل حركة السير على الاوتوستراد طوال النهار. وعند العصر وصل محافظ طرطوس في سيارته، ووعد النساء المعتصمات بإطلاق سراح رجال البيضا وبانياس الاربعمئة. لكن النسوة لم ينهين اعتصامهن، الا بعدما علمن أن الرجال أطلق سراحهم فعلاً بعد هبوط الظلام. وحينما وصلت نسوة البيضا الى بيوتهن وجدن رجالهن محطمين، وبعضهم ترك التعذيب تشوهات في وجوههم واجسامهم. وفي صبيحة النهار التالي تجاسر جمع من رجال القرى على المجيء الى البيضا لتقديم اعتذار لأهلها الذين اعتكفوا في بيوتهم، رافضين استقبال رجال الوفد وقبول اعتذاره.

 

في باب حديقة حرج بيروت الجديدة: شعاران واستعادة لمحطات من تاريخها

أكتوبر 20, 2011

 

محمد أبي سمرا

جريدة النهار 16\10\2011

 

 

 

بعدما أعيد إحياء حرج بيروت المستشهد في الحروب، تحول حديقة جديدة، جرى افتتاحها للعامة مدة وجيزة في العام 1999. فلماذا أغلقت واقتصر روادها على الخاصة من حملة تصاريخ من بلدية بيروت؟

“لماذا والى متى حرج بيروت مقفل بسبب النظام الطائفي؟”: انها العبارة التي كُتبت بطلاء اسود وبخط اليد على لوحة معدنية لصندوق من تجهيزات حديقة الحرج، مثبت في سوره الحجري الذي تعلوه قضبان سياجه. وعلى مسافة خطوات من اللوحة هذه، علّقت الى السياج الحديد لافتة من قماش ابيض، كتب عليها تساؤل – شعار آخر: “جورج ابرهيم عبدالله الى متى اسير في السجون الفرنسية؟”. ويحتاج قارىء الشعارين الى بعض من التبصر ليستنتج انهما يصدران عن طينة واحدة. فعبدالله متهم بتفجيرات “ارهابية” في باريس الثمانينات من القرن الماضي، حينما كان بعد شابا من اللفيف اليساري اللبناني الذي حملته غنائية شبابه الثوري على الالتحاق بأجهزة المنظمات الفلسطينية المسلحة والأمنية في مطابع الحروب الملبننة، ودفعته الى الاقدام على فعلته “الثورية – الارهابية” في العاصمة الفرنسية. وذلك في اطار ما كان يسمّى “العنف الثوري” الذي انخرطت مجموعات شبابية لبنانية في شبكاته الأمنية الرمادية، المتناسلة كالفطر منذ عشيات حروبنا.

 

 

طائفية الاحياء والأموات

آنذاك، اي في عشيات الحروب، كان حرج بيروت التاريخي القديم – وهو يعود الى عهد الامير فخر الدين المعني الثاني الكبير، في بعض الروايات التاريخية – بقعة خضراء مهجورة على حدود بيروت الادارية الجنوبية، يعبرها قليلون ممن شاؤوا اختصار الطرق ما بين الطيونة وقصقص، من دون ان يخلو عبورهم هذا من شيء من الوجل والخوف من زمر شبان من فتية الشوارع، ومن حشاشين و”سبقجية” يلجأوون، احياناً، الى الحرج الخالي المحاذي لميدان سباق الخيل، والقريب من حي المصبغة الذي تنزل فيه كثرة من سياس الخيل البعلبكيين، ونشطت فيه ايضا زمر فتيان الاحياء والشوارع الاشقياء، اشتهرت واحدة منها باسم “قرطة (زمرة) شهربان” التي كانت تسرح في الحرج وتمرح في ستينات القرن الماضي، حينما كانت الوظيفة العمومية الوحيدة للحرج، هي استضافته العاب “جرش العيد” في عيدي الفطر والاضحى. والارجح أن تقليد “حرش العيد” بدأ يذوي وينطفىء في مطلع السبعينات، بالتزامن مع انشاء دائرة جديدة في بلدية بيروت هي “دائرة الحدائق” التي أقيم لموظفيها مكتب في منشآت استحدثت آنذاك في نواح من الحرج. لكن الدائرة الادارية هذه ومنشآتها سرعان ما ترهلت وذوت، قبل ان تجتثها الحرب في العام 1975، وتحول الحرج ارضا للرعب ورمايات القناصين التي راحت تصيب جذوع اشجار الصنوبر المعمرة الباسقة، فتقتلها بطيئا بطيئا وواحدة تلو أخرى. ثم ما لبثت الحملة العسكرية الاسرائيلية على بيروت صيف 1982، ان قتلت ودمرت معظم ما تبقى أخضر من تلك الاشجار، وحولت الحرج ارضا لليباب.
قبل ذلك، ربما في خمسينات القرن العشرين، كان التخطيط المدني الجديد لبيروت وضواحيها الناشئة، وشق طرق جديدة اليها عبر الحرج، قد فصلا عن مساحته الاساسية مساحات من اطرافه، في محلتي قصقص والغبيري. وفي مطالع الحرب تحولت المساحات المفصوله هذه، مقابر لـ”الشهداء”. وبما ان تربة الموتى تنشد الصفاء الطائفي والمذهبي، عرفاً ومبدأ دينينين لا راد لهما ولا تهاون فيهما، واين منهما تهاون ارض الاحياء وديارهم التي ترغم البشر وتقصرهم على التجاوز والاختلاط؟! – فإن مقابر “الشهداء” الناشئة استقلت بقبورها وانفصلت استقلالاً وانفصالاً صافيين: واحدة او اكثر للسنة، لبنانيين وفلسطينيين، هي مقابر “الشهداء” في قصقص المتصلة بصبرا وشاتيلا الفلسطينيتين، والمتصلة ايضا بأطراف منطقة الطريق الجديدة، السنّية السكان، البيارتة والمهاجرين الى بيروت من قرى اقليم الخروب والعرقوب في اقصى جنوب لبنان الشرقي. اما مقبرة “روضة الشهيدين” الأحدث عهدا من مقابر “الشهداء” السنة، فنشأت في مطالع الحروب، في مساحة انفصلت من الحرج لجهة منطقة الغبيري، وخصصت لاستقبال “الشهداء” الشيعة النازلين في احياء الضاحية الجنوبية.
ومن غرائب احوال البشر في بلادنا وديارنا أن من كانت غنائية شبابهم الثوري، تجمعهم وتخلط بينهم وتوحدهم في بوتقة “نضالية” واحدة، بعدما تخرجهم من اهلهم وطوائفهم، مسلمين شيعة وسنة ومسيحيين، ومنهم جورج ابرهيم عبدالله وغيره وامثاله كثيرون، فصلت المقابر بينهم فصلاً صافياً وحاداً، بعد موتهم “شهداء” غنائية شبابهم و”نضالهم الثوري” الموحد، فووري كل منهم في مقبرة طائفته او جماعته واهله في القرى والمناطق. اما ما “استشهدوا” دونه وفي سبيله، فلم يذهب سدى وهباء منثوراً، ولم يكن سوى اضغاث اوهام قاتلة، فحسب، بل انه ادى الى عكسه ونقيضه: تدمير العمران والاجتماع، واتساع المقابر، وتسويرها ديار الاحياء، وتعميق المهاوي ورفع الاسوار الطائفية، ليس ما بين الاموات فقط، بل ما بين من اسعفهم قدرهم للبقاء على قيد الحياة، ايضاً. وهذا ما اصاب ما تبقى من حرج بيروت، بعد بعثه واحيائه من الموات، حديقة جديدة خضراء زاهرة، منذ العام 1999، بهمة “ايل دو فرانس” وتعاون بلدية بيروت معها. اما اللافتتان المنصوبتان على سور الحرج – الحديقة، فتنسجان على منوال غنائية جيل جورج ابرهيم عبدالله، وتجددها، كأن شيئاً لم يكن.
فتسمية عبدالله بـ”الاسير” والمطالبة باطلاق سراحه من سجون فرنسا “الاستعمارية” او “الامبريالية” في الرطانة اليسارية الثورية، من دون التبصر في فعلته “النضالية – الارهابية” تحاكيان المطالبة باطلاق سراح حديقة الحرج من “الاسر او الحجر الطائفي”، من دون التبصر في مؤدى هذه المطالبة وتبعاتها، وفي الظروف الراهنة التي حتمت عدم فتح ابواب الحديقة لكل الناس. ولنا في سابقة انشاء المبنى الجامعي الموحد في الحدث، مثال على ما يفعله اختلاط الطلبة اللبنانيين في ظل العسكرة الطائفية، وتحويل بعض الطوائف مناطقها معاقل لسلطانها العصبي المسلح. كأنما المطلوب هو تحطيم الحدود والحمايات التي تعصم الطوائف المعتصبة والمتعسكرة من الاقتتال والاحتراب، ومن استتباع هذه الطائفة لتلك، وليس نزع العسكرة الطائفية، ولجم سلطان الطوائف العصبي والعسكري على معاقلها الجغرافية والاهلية، قبل المطالبة بــ”الغاء الطائفية السياسية”، وقبل اطلاق شعار “اسقاط النظام الطائفي” الذي صاغه شبان يساريون مستعجلون على منوال لفظي خالص مستنسخ عن “الربيع العربي”: “الشعب يريد اسقاط النظام”. كأنما لدينا في لبنان نظام سلطوي ديكتاتوري قاهر، عماده الطائفية، كي ننادي باسقاطها، فيسقط النظام. هذا فيما يعاني لبنان من تحطيم نظام الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وتوزيعها اقطاعات على امراء الطوائف، وليس من النظام الطائفي الديموقراطي الذي عصم الدولة في لبنان من تحولها دولة سلطان ديكتاتوري على صورة الدول العربية ومثالها.

 

على باب الحديقة

على نحو مخاتل وموارب يطلب حراس بلدية بيروت من كل راغب في الدخول الى حديقة حرج بيروت الجديدة ان يكون لديه تصريح من بلدية بيروت. انا الذي كنت أعلم بأمر التصريح، تجاهلته، وتجاوزت بوابة الحديقة المقابلة لميدان سباق الخيل لجهة الطيونة، من دون ان التفت الى حراس البلدية او شرطتها الجالسين خلف البوابة. وحين ناداني احدهم طالباً مني التصريح، أقمت على تجاهلي، فشرح لي الامر قائلا ان الحديقة خاصة وتديرها السفارة الفرنسية، وليست عامة، وان زائريها او مرتاديها من الخاصة، وهم
من القضــــــاة والاطباء والمحامين… فقلت انني صحافي واريد القيام بجولة استطلاعية في الحديقة. سمح لي الشرطي البلدي بالدخول، على ان تكون جولتي اختبارا لحاجتي الى ارتيادها، قبل الحصول لاحقا على التصريح. وعن المبررات التي تحمل البلدية على منحي التصريح، قال الحارس انها صحية، كأن أكون، شأن غيري من الحاصلين على التصريح، مصاباً بمرض صدري يتعلق بالتنفس، كالربو مثلا او غيره. هذه الحجة المصطنعة مصدرها ثقافة شعبية محلية تنطوي على اعتبار التريض في الحدائق موقوفاً على المرضى وحاجتهم الى الاستشفاء، اي على “ذوي العاهات” وفقاً لما كان يكتب على المقاعد المنفردة في سيارات النقل العام المشترك (الاوتوبيسات) في زمن ما
قبل الحرب في لبنان. والعبارة تلك استبدلت بعبارة اخرى، هي “اصحاب الحاجات الخاصة”، تماشياً مع لغة ومفاهيم جديدة اشاعتها الجمعيات والمنظمات الانسانية المحدثة. اما الحارس البلدي فاستبعد الغاية الفعلية للحصول على التصريح، وهي ضبط الدخول الى الحديقة وتقنينه وقسره على الخاصة، للحؤول دون تشريع ابوابها
للعامة من الناس، لاسيما الفئات التي يُخشى ان تحولها مرتعاً عمومياً مشاعاً للاستباحة والتخريب، جرياً على عادات فئات لبنانية واسعة في سلوكها في الاماكن العامة، وخصوصا في الاوضاع والظروف الامنية والادارية الراهنة في لبنان، وفي بيروت وبعض ضواحيها على وجه التحديد.
فالحديقة كانت في بدايات انجازها في العام 1999، قد شرعت ابوابها لكل الناس، لكن سرعان ما استبيحت منشآتها، وتعرض بعضها للتخريب. واذا اضفنا الى هذه الظاهرة، ضعف الجهاز الاداري وغياب الصيانة الفنية وضآلة خبراتها في مجال صيانة الحدائق في بلدية بيورت، وما ينجم عن ذلك كله من
اهمال، نعلم لماذا تتكاثر في الحديقة المنشآت والتجهيزات المهملة، والاخرى المعطلة والخربة بسبب اعتداءات البشر. فما الداعي، اذا، الى استسهال رد تضييق فئات الداخلين الى الحديقة، عبر الحصول على ترخيص من البلدية، الى “النظام الطائفي”؟!
ان التذرع بالطائفية حيال اي معضلة يعيشها المجتمع والدولة في لبنان، ليس سوى شعار ببغائي للتستر على المعضلات الفعلية كلها وتجهيلها، والتهرب من التصدي الحقيقي لها، بذر الرماد في العيون.

 

 

شهادات عن تظاهرة ماسبيرو الاخيرة في القاهرة: الجيش دهس طلائع المتظاهرين بمصفحاته وأطلق النار على الحشود

أكتوبر 16, 2011

 

محمد ابي سمرا

جريدة النهار في 16-10-2011

 

 

 

تنقل هذه المتابعة بعضاً من شهادات فتيات مصريات ناشطات، شاركن في تظاهرة “ماسبيرو” الاخيرة نهار الاحد 9 تشرين الاول الجاري، اضافة الى بعض من معمعمة التعليقات التي تتناول الحوادث المصرية المتسارعة منذ ما بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) الماضي.

لبنى درويش، ناشطة مصرية الخامسة والعشرين من عمرها، شاركت في تظاهرات ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وملحقاتها. اخيراً، كغيرها من مصريات كثيرات ومصريين كثيرين، كتبت على صفحتها في “فايسبوك” شهادة تفصيلية موسعة عن مشاركتها في التظاهرة الاحتجاجية على الاعتداء على الكنائس القبطية، التي انطلقت من محلة شبرا ذات الغالبية السكنية القبطية في القاهرة، وتوجهت الى وسط العاصمة المصرية للاعتصام امام مبنى الاذاعة والتلفزيون (ماسبيرو). وما يلفت متصفح صفحات “فيسبوك” ان من كتبوا شهاداتهم عن التظاهرة هذه، معظمهم من الفتيات المسلمات الناشطات اللواتي تكثر بينهن المحجبات.

من وقائع المقتلة

في واحدة من الشهادات، كتبت الناشطة شيماء يحيى انها لجأت مع كثير من المتظاهرين والمتظاهرات الى مبنى فندق رمسيس هيلتون القريب من “ماسبيرو”، هاربين من اطلاق الجيش النار على الحشود، ودهسه طلائع المتظاهرين بمصفحاته، وكان بين الهاربين اللاجئين الى الفندق الفخم عائلات مسيحية مع اطفالها. وروت شيماء ان امرأة من هذه العائلات، رجتها ان تسير معها في الشارع، وسط اولادها وزوجها، بعد خروجهم من الفندق في الساعة التاسعة والنصف مساء، عقب المقتلة التي ألمّت بالمتظاهرين. ومما قالته المرأة القبطية للناشطة شيماء: “خليكي معانا، اذا عرفوكِ مسلمة محجبة لا يضربونا”. وروت ناشطة ثالثة، محجبة ايضا، انها صادفت في احد الشوارع القريبة من “ماسبيرو” امرأة تصرخ معولة الى جانب زوجها الملقى على الرصيف، يشخر ملطخ الجسم بالدماء. وحين وصلت سيارة اسعاف لنقل الزوج، وجد المسعفون انه فارق الحياة، فتركوه لضرورة اسعاف الجرحى، فساعدت الناشطة المرأة في نقل جثة زوجها الى مدخل احدى البنايات.
في شهادتها المفصلة ذكرت لبنى درويش ان مسلمين كثيرين من سكان شبرا شاركوا في التظاهرة – المسيرة، بعدما دعاها هاتفياً، شاب قبطي يدعى عادل، كانت تعرفت اليه في تظاهرات سابقة في ميدان التحرير، فلبت دعوته، وقامت بتصوير التظاهرة في سيرها من شبرا الى “ماسبيرو”، ثم كتبت شهادتها التي، لدقتها وحيويتها الوصفية، تناقلتها مواقع الكترونية كثيرة، فضلاً عن صفحات “فيسبوك”. قدرت لبنى عدد المتظاهرين الذين انطلقوا من شبرا بـ25 الف شخص، بينهم جمهور واسع من العائلات القبطية، نساء ورجالا واطفالاً ومن اعمار متباينة، وراحت اعدادهم تتزايد في الطريق الى “ماسبيرو”. وقد رُشقت التظاهرة بـ”الطوب والزجاجات الفارغة” مرتين، الاولى “تحت جسر حلمي” والثانية قبيل وصولها قريبا من فندق رمسيس هيلتون. وتطلق لبنى صفة “البلطجية” على من قاموا برشق المتظاهرين. و”تحت كوبري الجلاء، كانت الروح المعنوية للمسيرة عظيمة، وغالبية الهتافات ذات الطابع الديني، اختفت، وكنت سعيدة بذلك، لكنني كنت خائفة وقلقانة، فالتظاهرة مليئة بالعجزة والأطفال، وكنا نهتف: يسقط يسقط حكم العسكر، إحنا الشعب الخط الاحمر. ومصر لكل المصريين، من اي ملة وأي دين. والكنيسة اتحرقت ليه؟! والعادلي راجع ولا إيه؟!”. وهذا قبيل أن تصف لبنى مقتلة الدهس وإطلاق النار، وتنهي شهادتها بما بثه التلفزيون المصري الرسمي من “تحريض ديني” ضد المتظاهرين، حينما دعا المصريين (المسلمين ضمناً) لنجدة جيشهم “الوطني” الذي “حمى الثورة والثوار” طوال ثورة 25 يناير (كانون الثاني). فالتلفزيون، مساء الاحد 9 تشرين الأول الجاري، أثناء إطلاق الجيش النار على المتظاهرين ودهسهم بمدرعاته، أخذ يبث بلسان المذيعة رشا مجدي، نداءات لنجدة الجيش الذي يتعرض لإطلاق النار من “فئة من المصرين” (الأقباط ضمناً). وذكرت المذيعة التلفزيونية التي بثت النداء، أن “ثلاثة جنود قتلوا”، وتبين لاحقاً أن الخبر هذا مختلق وعارٍ من الصحة. أما لبنى درويش وغيرها من أصحاب الشهادات، فرووا أن الأهالي الذين اندفعوا من بعض الأحباء لنجدة الجيش في “ما سبيرو”، أخذوا يتساءلون “أين الأقباط الذين يهاجمون الجيش بالسلاح؟!”، وذلك عندما لم يجدوا في الشوارع سوى الناس الهلعين، والكثير من الجرحى وجثث القتلى المسحولة.

معمعة مصرية وتكتم قبطي

يُجمع المصريون وغير المصريين المتتبعين لسلسلة الحوادث المصرية اليوم والمنخرطين فيها وفي مناقشتها، على أن مصر تعيش في معمعة هائلة من الاضطرابات والانقسامات والمعضلات المتناسلة والمرهقة، لا تنفصل عن معمعة أخرى من الأخبار والتعليقات والآراء المتعلقة بسلسلة هذه الحوادث اليومية المتدافعة. وبلغت المعمعة الضخمة المزدوجة هذه حدودها القصوى اللامعقولة مع تظاهرة الأحد 9 تشرين الأول، الاخيرة. فإحدى الناشطات كتبت على صفحتها في “فيسبوك” نموذجاً تهكمياً على ما يبثه الإعلام المصري الرسمي من أخبار، من أنه “تم تسجيل 3 حالات وفاة في صفوف الجيش، فجرى نقل (الجنود المتوفين) الى المستشفى، (حيث) تلقوا العلاج وتحسنت حالهم”. وختمت الناشطة خبرها هذا بالدعاء: “ألف سلامة ليكم يا أبطال”. وفي مكالمة هاتفية أجريتها مع الصديق المصري القاهري، هاني درويش، سألته عن تعليقات مصريين سمعتها في برنامج “نقطة حوار” على إذاعة (B.B.C) اللندنية، أوحت لي بأن كثيرين من المعلقين على حوادث التظاهرة الاخيرة، يعتبرون ان الاقباط شقوا عصا الطاعة ضد الجيش الذي حمى الثورة المصرية، ويشجبون خروجهم في تظاهرات احتجاجية خدمة لمؤامرات اجنبية، فقال هاني إن الأقباط، في وجه من وجوه الوعي العامي للمصريين المسلمين، هم من “مخلفات الانكليز والاستعمار البريطاني”. هذا فيما كان بعض المشاركين من “الإخوان المسلمين” في برنامج “نقطة حوار” الإذاعي، يطلبون من الأقباط “الصبر والتروي والانتظار” حتى نهاية المرحلة الانتقالية وحصول الانتخابات العامة، مهونين عليهم ما حدث في تظاهرة ماسبيرو، وإلا فإن ما أقدموا عليه سيؤدي الى “إحراق الوطن، ومن دون أن يطالب هؤلاء “الإخوانيين” المجلس العسكري المصري في شيء. وتعليقاً على البيان الرسمي الذي أصدره “الاخوان المسلمون” في شأن ما حدث في التظاهرة الأخيرة، ذكر أحد المعلقين الصحافيين المصريين أن قارئ البيان “الإخواني”، “لا يعلم مَن ضرب مَن في التظاهرة، ومَن أطلق النار ومَن قتل، وما هو الموضوع – الحادثة، وما هو الموقف منه، ومن يتوجب عليه التوقف عن العنف”. وأشار المعلق ايضاً الى استهجانه قلة ظهور مشاعر التعاطف مع الضحايا الأقباط، فيما كتب لبناني مقيم في القاهرة على صفحته في “فايسبوك”: “اليوم، أنا مواطن قبطي في مصر، ومواطن حرّ في سوريا، ومن شهداء ثورة الأرز في لبنان، وأنا من المعارضة المدنية في كل بلد عربي”. وروت شابة لبنانية طالبة في الجامعة الأميركية في القاهرة، منذ أشهر، أن ما فاجأها في إقامتها المصرية، وفي احتكاكها ببعض المصريين والمصريات، هو قلة تعرضهم لاختبارات حياتية وذهنية وشعورية لا تنطلق من اعتبار الإسلام والهوية الاسلامية، ليسا الناظم الوحيد للعالم وحياة البشر. ولاحظت الشابة اللبنانية ايضاً أن من التقت بهم وتعرفت اليهم من الأقباط، غالباً ما يخفون “هويتهم” الدينية، ويحاذرون التعبير عن مشاعرهم الخاصة، إلا في دوائر ضيقة وخاصة. ومن تجاربها في هذا السياق روت أن شابة مسلمة من زميلاتها في الجامعة، تتكتم على علاقتها العاطفية بطالب قبطي، وتحاذر أن تنكشف هذه العلاقة بينهما. وغالباً ما يتلفت زملاؤها وزميلاتها الأقباط، ويخفضون أصواتهم، فيما هم يتحادثون في المقاهي، إذا رغبوا في الكلام والتعبير عن آرائهم الفعلية في الحوادث التي تحصل يومياً في مصر.

تكتيك امتصاص الصدمات

من جملة التعليقات التي يصعب إحصاؤها على التظاهرة الأخيرة، كتبت إحدى الناشطات متهكمة: “مطالب الأقباط فئوية، ومطالب المسلمين وطنية”. وفي تعليق آخر كتب وفيق ناصر متسائلاً: “ماذا يفعل الجيش المصري الذي يتعرض، منذ ما بعد ثورة 25 يناير، الى مطالب سياسية كاسحة؟”، فهو يتهرب من “المواجهة المباشرة، ويتبع تكتيك امتصاص الصدمات، منذ خلع الرئيس حسني مبارك”. ووسيلته الدائمة في امتصاص الصدمات، هي “الايقاع ما بين فئات الشعب المصري”، وصولاً الى انهاكها وتيئيسها، وليبقى القوة الوحيدة المسيطرة على السلطة ومؤسسات الحكم والدولة. واللافت أن من نتائج ما حدث أخيراً في ماسبيرو، ظهور مطالبات كثيرة بـ”لجنة تقصي حقائق دولية، لأن لا ثقة في شيء وسط المعمعة المصرية الراهنة، لا بالإعلام، ولا بالحكومة، ولا بالجيش ومجلسه العسكري”.

يوميات الانتفاضة السورية: وقائع الاقتحام الأمني الأول لبانياس “يا قرد، بحياتي ما شفت هيك قوة قلب

أكتوبر 16, 2011

محمد أبي سمرا

النهار في 9-10-2011

يروي هذا الجزء من يوميات الانتفاضة في بانياس، شاب شارك في تظاهرات أهالي المدينة المتتالية منذ 18 آذار. والرواية هذه تنقل وقائع اقتحام رجال الأمن المدينة في 2 نيسان الماضي.

بعد قليل من وصولي الى بيتنا  حوالى الساعة الثانية من ليلة الجمعة – السبت 2 نيسان، انقطع التيار الكهربائي وكل أنواع الاتصالات عن بانياس، فدب الذعر في نفوس الأهالي الذين كان معظمهم لا يزال ساهراً في البيوت. خرجت من بيتنا وجلت في الشوارع القريبة المعتمة، التي سرعان ما راح يتكاثر فيها رجال وشبان وفتيان أخرجهم من بيوتهم الخوف من توقع هجوم رجال الأمن والشبيحة على أحياء المدينة. مع تكاثر الناس على مداخل الأحياء، وسريان شائعات عن أن الهجوم الأمني سيبدأ عند الفجر، فتضاعفت موجات هلع النساء في البيوت، وانبعثت في نفوس كثيرين ومخيلاتهم صور هاجعة تعود الى مقتلة حماه في العام 1982.

هلع الفجر وقتلى النهار

عند صلاة الصبح في المساجد، قام مجند سابق في الجيش – وهو من الشبان الناشطين في التظاهرات – بجولة سريعة في شوارع المدينة، فمر في ساحاتها، ثم عاد الى مداخل الأحياء معلناً للرجال والشبان على الحواجر، أنه لم يبصر أثراً لرجال الأمن والشبيحة، وأن لا شيء ينبئ بهجومهم المتوقع، فبادر كثيرون من الرجال والشبان الى نزع الحواجر، من دون أن يغادروا مداخل الأحياء. لكن في حوالى الساعة الخامسة صباحاً، فوجئ الناس بسبع سيارات مليئة بعناصر الأمن والشبيحة المسلحين، تنطلق في سرعة قصوى في بعض من الشوارع، مطلقة زخات متتالية من الرصاص العشوائي في اتجاه البيوت والبنايات. كنت في جامع القبيات، فخرجت منه بعد هنيهات من سماعي رشقات نارية، فلمحت سيارة الأمن تبتعد مسرعة، تاركة خلف المسجد أربعة جرحى إصاباتهم طفيفة في أرجلهم أو أذرعهم، فنقلوا الى أحد مشافي المدينة. لكن إطلاق زخات الرصاص العشوائي لم يتوقف، فإحدى سيارات الأمن خلّف مرورها قرب جامع أبو بكر الصديق ثلاثة جرحى، منهم أسامة الشيخة الذي توفى بعد أسبوع في المستشفى، متأثراً بجروحه البالغة، وهو الشهيد الأول في بانياس. بعض من الرجال والشبان أطلقوا النار من بنادق الصيد والبنادق الحربية القديمة على سيارات رجال الأمن التي مرّت مسرعة وأطلقت زخاتٍ من الرصاص على البيوت، من دون أن يعلم أحد من الأهالي إن كان أي من رجال الأمن قد أصيب، مع إستمرار غاراتهم السيارة ورشقات نيرانهم العشوائية الغزيرة على البيوت، حتى حموة الشمس على شوارع المدينة شبه المقفرة والمزروعة بالخوف وأزيز الرصاص وبأصدائه المدمدمة. وفي حوالى الساعة العاشرة بدأت تبتعد أصوات الرشقات النارية وتتخافت أصداؤها، بعد مواجهة حصلت على الأوتوستراد عند طرف المدينة، بين مجموعة من شبان المدينة المسلحين ورجال الأمن والشبيحة المنسحبين في سياراتهم التي تركوا منها إثنتين على الأوتوستراد وفروا في السيارات الخمس الأخرى. وهذا ما حمل جموعاً من شبان بانياس ورجالها على إدخال السيارتين الأمنيتين الى ساحة السنتر – التحرير، وإضرام النيران فيهما، فكتبوا على إحداهما، بعد احتراقهما وخمود النار: انتبه أنت في بانياس لا في إسرائيل.

احتلال المستشفى

ابتداء من الساعة الثانية ما بعد ظهر السبت، 2 نيسان، أخذت مجموعات من رجال الأمن والشبيحة تتكاثر في حي القوز العلوي على طرف المدينة، قريباً من محلة تدعى رأس النبع. وبعد حوالى نصف الساعة شاهد الأهالي وحدة من الجيش النظامي تتقدم على الأوتوستراد، وتتوقف غير بعيد من رأس النبع. لم تكن الوحدة التي يبلغ عدد جنودها نحو المئة، تستعمل دبابات ولا مصفحات، بل سيارات عسكرية صغيرة وناقلات جند، وعلى رأسها عقيد، شاع بين الأهالي أنه حرّك الوحدة من دون أمر عسكري من قيادة الجيش، بل بالتعاون مع أجهزة الأمن والشبيحة، وكي يظهر ولاءه للقيادة السياسية العليا في البلاد، وينال حظوتها. وسرعان ما أخذ جنود الوحدة العسكرية – الذين شوهد بعضهم عراة الصدور إلا من قمصان داخلية بيضاء – يطلقون النار، تارة في اتجاه رأس النبع وحي القوز العلوي، وطوراً في اتجاه حي القلعة السني، الذي يتوسطه جامع الرحمن. ثم لم يلبث قناصون من الشبيحة والأمن، أن شرعوا باطلاق نيران قناصاتهم على حي القلقة، من حيث يتمركزون على سطوح البيوت في حي القوز، فدار إطلاق النار بين الحيين، العلوي والسني، وشارك فيه جنود الوحدة العسكرية. وحتى الساعة السابعة مساء، كان قد قتل من شبان حي القلعة أربعة شهداء، وجُرح خمسة آخرون من الاهالي، فنقلوا، وسط انطلاق التكبير من مساجد بانياس، الى المستشفيين في المدينة، وفي الأثناء، وفقاً لرواية شاب أعرفه، أطلق العقيد، قائد الفرقة العسكرية، النار على ستة من جنوده رفضوا أوامره، فأردى ثلاثة منهم، وجرح ثلاثة آخرين، قبل أن يبادر أحد الجنود بإطلاق النار على العقيد. وروى الشاب أيضاً أنه استطاع، مع رفاقه، نقل الجنود الجرحى الى المستشفى الحكومي، قبل أن يهاجمه رجال الأمن والشبيحة، ويقتلوا الجرحى فيه، ويحتلوه ويحولوه مقراً أمنياً أو عسكرياً لهم. أما المستشفى الآخر في بانياس – وهو بدائي التجهيز، ويدعى “مستشفى البر والخدمات الاجتماعية”، وتديره جمعية أهلية – فاكتفى رجال الأمن والشبيحة باطلاق زخات من رصاص بنادقهم عليه بين وقت وآخر. وهذا ما حمل شباناً من المدينة على وضع شاحنتين أمامه، لحمايته من الرشقات النارية. في نشرة أخبار التلفزيون السوري الرسمي التي تذاع في الثامنة مساء، قال بيان عسكري إن ضابطاً من الجيش قتل في بانياس، وإن ضابطاً آخر أصيب وبترت رجلاه. والضابط هذا روى في مقابلة مصورة بثها التلفزيون السوري مساء الأحد 3 نيسان، أن أحد الشبان “القبضايات” في بانياس هاجمه بحزمةٍ من الديناميت قذفها داخل سيارته. وبلهجته العلوية الموصوفة التي لا تخفى على السوريين، قال الضابط المبتور الرجلين: “قرد، بحياتي ما شفت هيك قوة قلب. فتح (الشاب) باب السيارة (التي كنت في داخلها) وحط ضرب الديناميت، وسكر الباب، وهرب، يا قرد”.

هرب العلويين والحصار

مساء ذلك السبت، 2 نيسان، خلا حيا العلويين في بانياس، القصور والقوز، تماماً من سكانهما الذين نزحوا من بيوتهم الى قراهم في جبلهم القريب. وفي المساء نفسه، وحتى ساعة متقدمة من الليل، دارت اتصالات مكثفة ما بين جهات عليا في الدولة وبعض من كبار ضباط الجيش ومحافظ طرطوس من جهة، ورئيس بلدية بانياس وبعض من رجال الأعمال والتجار فيها على صلات ما بالسلطة وأجهزة الأمن، بينهم تاجر مثَّل الشيخ أنس عيروت الذي رفض المشاركة بنفسه في المفاوضات، من جهة أخرى. لاحقاً قيل إن هؤلاء المفاوضين اعتقلوا جميعاً. أما ما اتفق عليه الطرفان في هذه المفاوضات، فهو انسحاب أجهزة الأمن من بانياس، ودخول الجيش النظامي اليها، وتوقف الأهالي عن التظاهر في المدينة التي جلا عنها فعلاً رجال جهاز أمن الدولة، حاملين أثاثات مقرهم قبل قفله. وفي صبيحة نهار الأحد قدمت الى محلة رأس النبع وحدة عسكرية صغيرة، وأخلت جثث الجنود الثلاثة الذين قتلهم العقيد أمس، بعد رفضهم أوامره مع ثلاثة آخرين أطلق عليهم النار ايضاً، فجرحوا ونقلهم شبان من بانياس الى المستشفى الحكومي، قبل أن يحتله رجال الأمن والشبيحة.
صبيحة نهار الاثنين، 3 نيسان، انتشرت قوة عسكرية كبرى من الجيش، بدباباتها وآلياتها، على أطراف المدينة وتخومها، من دون أن تدخلها. وحين حاولت الدبابات التقدم الى داخل المدينة للتمركز فيها، خرجت جموع من الاهالي الى الشوارع في تظاهرات تصدّت لدخول الدبابات التي عادت أدراجها وتمركزت خارج المدينة. أما قوات الأمن والشبيحة التي خرجت من بانياس، فأقامت حواجز لها على كل الطرق المؤدية اليها، ضاربة حولها حصاراً، ومانعة إدخال المؤن اليها، مع قيامها بحملة خطف واعتقال لكل من يدخلها ويخرج منها. لذا شلت الحياة في المدينة، وأقفلت معظم المتاجر في سوقها، وتوقف العمل في مؤسساتها وإداراتها الحكومية العامة، لأن معظم موظفيها من العلويين الذين لم يبقَ منهم أحد في بانياس. أما المدارس فأقفلت أبوابها ايضاً، فيما دفع الخوف والحصار بعضاً من العائلات السنية الى مغادرة المدينة، رغم الحواجز الأمنية التي اختطفت أو اعتقلت شباناً من هذه العائلات.